على الحكومة ألا تنخدع بفشل وإخفاق الأحزاب السياسية والقوى المعارضة في تحريك الشارع ضدها على خلفية ارتفاع الأسعار والوضع الاقتصادي المأزوم، واتضاح أن هذه الأحزاب معزولة لا تستطيع تنسيق التظاهرات والاحتجاجات وإصابة الحكومة في مقتل وإسقاطها.. فهذه الأحزاب تحركها أجندتها وغرضها السياسي، ولذلك هي عاجزة ومعزولة ولم يتجاوب معها الشعب الذي لا يزال يرى في الحكومة خيراً، لكنه إذا خرج هو دون أن تحرضه المعارضة، فلا تستطيع الحكومة ولا أية جهة الوقوف أمامه، فالذي أحق أن تخشاه الحكومة، هو الشعب وليس هذه الأحزاب اليائسة البائسة. فالصواب هو أن تواصل الحكومة في إنفاذ ترتيباتها وتدابيرها ومعالجاتها التي اتخذتها لتخفيف وطأة الوضع الاقتصادي وضبط السوق ومنع تصاعد الأسعار وتوفير السلع الضرورية، وانتهاج سياسة وإجراءات اقتصادية وسياسية وأمنية تضع الحد للمضاربات وتلاعب التجار والاحتكار والتخزين، وتسييج سياساتها الاقتصادية والمالية بسياج متين من الحكمة والحزم والنظر الدقيق. وهناك معضلة كبرى هي السبب في كل ما يحدث ويتحاشي الناس الحديث عنها وتوضيحها واتخاذ تحوطات حاسمة بشأنها، فالمؤتمر الوطني مليء حتى التخمة بالتجار ورجال الأعمال وأصحاب الأموال الذين بيدهم كل شيء في مجال التجارة والاستيراد، ومفتوحة لهم الأبواب في العمل والاستثمار، وهؤلاء هم سبب من أسباب الأزمة الحالية وإليكم الحجة. هؤلاء التجار ورجال الأعمال وأصحاب الشركات المحتكرون للسوق، هم أعضاء في القطاع الاقتصادي للحزب، يسهل لهم الوصول لكل مستويات الدولة والسلطة، وتفتح لهم الأبواب للحصول على المعلومات والتسهيلات، ويحضرون اجتماعات القطاع الاقتصادي في الحزب، الذي تطرح فيه السياسات والمعلومات المهمة حول اقتصاد البلاد وأسرار السياسات الاقتصادية والنقدية، فبما أن هؤلاء التجار ورجال الأعمال ناشطون في السوق ويستفيدون من المعلومات المتاحة لهم، فيتحركون تجاه مصالحهم التي هي مقدمة على مصلحة الحزب أو الوطن، فالذي يعمل في مجال السكر أو الدقيق أو الاسمنت ومواد البناء والزيوت أو تجارة العملة أو أي صنف من صنوف التجارة العامة، يخرج من لقاءات واجتماعات الحزب ليرى مصالحه طبقاً لما يحمله من معلومات وأسرار وتوقعات بنيت عليها سياسات الدولة الاقتصادية. هذه هي الحقيقة.. ويجب ألا نتعامى عنها ونتجاهلها.. فالولاء السياسي مهما كان لم يعد عاصماً من الولاء للمنفعة التي تحكم كل شيء، ومعروف أن هناك تجاراً ورجال أعمال أتقياء أنقياء بذلوا في سبيل وطنهم وحزبهم المؤتمر الوطني كل غالٍ ونفيس حتى المهج والأرواح، لكن الحال الآن بعد أن صار الأنقياء بعدد أصابع اليد الواحدة، لم يعد كما كان ولا كما ينبغي. يمكن للحكومة أن تمضي في سياساتها الاقتصادية وإجراءاتها التي اتخذتها، وبعض هذه التدابير المتخذة في ولاية الخرطوم أو من البنك المركزي ووزارة المالية بدأت تحقق نجاحاً لا بأس به في لجم الأسعار وكبح جماح السوق الجشع، لكن الأشد جشعاً من الغول نفسه هو ما يتوجب لجمه. احصروا السياسات والمعلومات المالية والاقتصادية في إطار أجهزة الدولة فقط والجهات المنوط بها وضعها وتنفيذها، سيخلو لكم وجه الشعب السمح، وتستطيعون من خلال ذلك العمل دون خذلان واستغلال، أما إذا تحالف المال والسلطة فلا مجال لأي إصلاح اقتصادي ولا غيره، وسنقع في فتنة السلطة والمال كما حدث لنظام حسني مبارك في مصر، وفضائح رجال السياسة عندما تحالفوا مع رؤوس الأموال فذهبت ريحهم وباءوا بغضب من الله والشعب. قبل التغلب على فوضى الأسواق علينا بفوضى الأخلاق في التعامل مع الولاء السياسي، وكيفية أن يكون الهم العام مقدماً على الخاص، والبذل والتضحية أعلى مقاماً وأكثر بركةً من شح النفس والركون للذائذها ومغانمها، تلك منزلة ما عادت في دنيا اليوم إلا للشهداء والصديقين وفي مرويات الصوفية وأهل الله.