{ مسيد المزروب والمدرسة الصغرى لعل أو ما أذكره من أحداث الطفولة وأنا في السادسة من العمر نار القرآن في مسيد الدِّكّة بالمزروب، ونحن جلوس حول التقابة المتقدة وقد علت ألسنة اللهب وسطع ضوؤها، ونحن نمسك بالألواح ونجهر بالقراءة وللقرآن دوي. يقرأ كل حوار لوحه ولا نقرأ معاً سورة واحدة كما هو الشأن في المدرسة. ولا تزال ترنُّ في خاطري الآيات من سورة الحديد التي رسخت في الذهن. (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) الآية 60.كان شيخنا في الخلوة شيخ النور علي رحمه الله، وقد ظللت أقرأ معه القرآن بعد دخول المدرسة الصغرى.. كان المسيد يبدأ عند الفجر، وتبدأ القراءة بعد صلاة الصبح حتى شروق الشمس حيث نمحو الألواح بالماء لنكتب عليها من جديد. ثم نعاود القراءة من صلاة الظهر حتى العصر، ومن بعد المغرب حتى العشاء. وبعد العشاء يعود أبناء الدِّكة إلى منازلهم، ويبيت بالمسيد أبناء القرى المجاورة ينامون بداخلية المسيد يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء. كان أبناء النظار يقرأون معنا في الخلوة ويفترشون معنا الأرض، ويجلس شيخ الخلوة على فروته يتابع القراءة باهتمام ويصحح كل مخطئ رغم اختلاط الأصوات.. وكنا عندما نبدأ الكتابة في الصباح نتحلق حول الشيخ الذي يملي على كل واحد لوحه في منظر مذهل عجيب.. يصيح هذا الحوار شيخنا (فستبصر ويبصرون) فيملي الشيخ (بأيكم المفتون) ويصيح الآخر (شيخنا الذين يتبعون النبي الأمي) فيملي الشيخ (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل) وهكذا حتى تنتهي (الرمية) بكتابة آخر الألواح. كان يتولى الإنفاق على المسيد الناظر جمعة سهل رحمه الله.. وكان طعام الحيران عصيدة بملاح الروب وأحياناً اللوبيا أو الشرموط، يتخاطفونها حارة ولا يدعونها تبرد، ولا يكادون يشبعون. لم يكن بالمزورب في عهدنا مدرسة غير المدرسة الصغرى التي يقضي فيها التلميذ ثلاث سنوات يدرس فيها اللغة العربية والدين ومبادئ الحساب. وكانت المدرسة الصغرى في الدكة ( وهي مقر ناظر قبيلة المجانين) تقوم إلى جوار المسيد في كرانك من القش، ويجلس فيها التلاميذ على بروش (حصاير من السعف) وبها سبورة سوداء. وكان غالب التلاميذ يدرسون بالمدرسة في الصباح ويقرأون في الخلوة في المساء. كان من بين أساتذة المدرسة الصغرى الذين أحببتهم وأحبوني الشيخ الوسيلة إبراهيم الحاج خمسين فقد كان يتعهدني بالرعاية ويخصني دون غيري بمشاركته طعام الإفطار.. ولعل ذلك كان من باب التكريم لوالدي عالم القرية ومفتيها. وبعد إتمام الصغرى كان عليّ أن أعيد السنة الثالثة في المدرسة الأولية في سودري أو بارا حتى ندرس مواد الجغرافيا والتاريخ التي لم تكن تدرس لنا في المدرسة الصغرى. ولم ترق لي فكرة الإعادة وعندما رحل والدي إلى حلة السوق كانت له خلوة بمنزلنا، فواصلت دراستي للقرآن فيها حتى بلغت سورة الأنفال. ثم رأى والدي أن ألتحق بالمعهد العلمي بالأبيض فرحلت إلى الأبيض. { الغلباوي قيل عني أني في صباي كنت ولداً شقياً كثير السؤال دائم الحركة ملحاحاً حتى سموني (الغلباوي).وكان لنا راعي يدعى (نعمان الأطرش) يرعى أبقارنا ويأتينا باللبن كل مساء. وأذكر أنه لما قيل لي مرَّة إن (نعمان) بالباب هُرعت إليه مسرعاً فاعترضتني عصاً كانت في الطريق فوقعت على الأرض وأصبت بجروح في ركبتي اليسرى لا يزال أثره باقياً حتى اليوم، وكلما قرأت أبيات سعيد بن المسيِّب عن (جبليّ نعمان) تذكرت قصتي مع نعمان راعي البقر. قيل إن الإمام سعيد بن المسيب عالم المدينةالمنورة وأحد الفقهاء السبعة من التابعين كانت له مطلقة تدعى (نسيم الصبا) كانت تشهد درسه. وافتقدها يوماً في الدرس فوجدها تجلس خلف امرأتين ضخمتين لم تدعا له مجالاً لرؤيتها فأنشد: أيا جَبَليْ نعمان بالله خلِّيا.. نسيم الصّبا يخلص إلى نسيمُها. ويذكرني (نعمان) الراعي بنعمان الطبيب الذي قال فيه الشاعر: أقول لنعمان وقد ساق طبّهُ نفوساً نفيسات إلى باطن الأرض أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا .. حنانيك بعض الشر أهون من بعض