هذه حلقات متتابعة لرواية تتكون من ثلاثة أجزاء «ثلاثية» أولها «التغريبة» يتلوها «مشلهت والضياع الكبير» ثم الجزء الأخير «مشلهت والضياع الأكبر». تتمدد هذه الرواية في مساحة زمنية كبيرة تبدأ من اليوم الأول لانقلاب الرئيس الأسبق جعفر نميري في صبيحة الخامس والعشرين من مايو «1969م» وتتواصل أحداثها إلى معتقل قوانتانمو في القاعدة الأمريكية في كوبا. تُنشر لأول مرة مكتملة بأجزائها الثلاثة في جريدة «الإنتباهة». كانت هناك حركة غير عادية في الشارع الذي يقع خلف منزل صهره عبد الودود ... أطفال يتصايحون ونساء يزغردن ورجال يهرولون نحو أحد المنازل.. وامرأة تحمل « قفة» على رأسها وتمسك بطرف ثوبها بفمها تتعثر «سفنجتها» التي «تتسفنج» بها وتستخدم رجليها تحاول اللحاق بما يدور في ذلك المنزل.. خرج مشلهت ليقف بالقرب من «كنتين» عبد الله على ناصية الشارع وليستكشف عما يدور في الطرف الآخر من الشارع عندما سمع أحد الأشخاص وفد ترجل من «بسكليتة» كان يركب عليها... * ولله حكاية عجيبة.. تصور جاكوم المبشتن جا راجع. وانطلقت صيحة من جميع الذين كانوا بالكنتين بمن فيهم مشلهت: يا زول ... جاكوم المبشتن جا راجع؟.. والله حكاية...المخروب دا غطس وين؟ وهسع قلع من وين؟ ويجيب صاحب «البسكليتة» وقد شعر بأنه مصدر اهتمام عدد لا باس به من الناس: *والله أنا ذاتي ما عارف.. بس مشيت هناك لقيت ناس متلمين قلت ليهم في شنو؟ قالوا لي جاكوم المبشتن جا راجع؟ - وأنت شفتو بعينك؟.. * أشوفو وين؟ الناس بدوني فرقة أشوف بيها؟.. لمة عجيبة خلاص.. وشعر مشلهت بارتياح عميق وهو يقول: * أنا ما قلت ليكم؟ والله مما جاكم اختفى أنا كنت واثق انو حيرجع.. زي ما تقول عندي شعور جواني كدا ... بيقول لي انو حيجي راجع.. على أي حال نمشى نشوفوا ونسلم عليهو. انضم مشلهت لزمرة كبيرة من الناس ظلت أعدادها تتزايد لأنهم سمعوا أن جاكوم المبشتن قد عاد.. ولكن الأمر التي كان يدعو لحيرة الجميع هو أن جاكوم المبشتن لم يعد وهو «مبشتن» لقد عاد بلحمه ودمه ولكن «البشتنة» لم تعد معه ... يبدو أنه تركها في المكان الذي ذهب إليه ... ولذلك عندما قابلته حاجة كلتوم صائحة: * هيا جاكوم ... قادر الله.. أنت حي؟ أجابها قائلاً: - أي.. كدا احسن.. تقولي لي جاكوم كدا ساكت بدون مبشتن.. فتجيب حاجة كلتوم.. * بشتنة شنو كمان يا جاكوم.. ؟ يعلم الله.. حالك حال السرور ... ايوى يوي يوي «مزغردة» ... والله عجبنى للحاجة ست أبوها ... كل يوم ... مطلع كل شمس ... أنا بجي اصبح عليها وبقول ليها يا حاجة اصبري جاكوم عايش وبجيكي.. حتى كنّانة الوداعية كانت بتخت الودع وبتقول ليها نفس الكلام ... الرسول يا انت كنت وين الزمن دا؟ - كنت في بلداً طيرو عجمي. ويتدخل أحد الأشخاص وينهي ذلك الحوار بين جاكوم وحاجة كلتوم قائلاً: يا خوى غايتو أنت حكايتك دى حقو تديها لناس الجرايد ... عشان كلنا نعرف أنت مشيت وين وكنت وين وهسع رجعت كيف؟ ويجيب جاكوم بضحكة مجلجلة: *انتو عايزين تعملوا لي زي حكاية مستور والتمساح؟ يا اخى حكاية مشهورة ... مستور نزل البحر وجا التمساح خطفو وعام بيهو بعيد ... ومستور تذكر كلام جدو انك إذا كنت في البحر وخطفك التمساح طوالى تطعنه بالسكين أو بإصبعك في عينو وهو طوالى بفكك ومستور عمل كدا والتمساح فكاهو وبعدين عام لحدي ما وصل القيف وجوا النواتية وأخدوه لبيتو ... وبعد كدا الناس فضلت تجي وتجي وكل واحد يسأل مستور عن حكايتو مع التمساح وهو يحكي ويحكي ويقول ليهم جا التمساح وخطفني وأنا تذكرت نصيحة جدي ... الخ الحكاية ... وبعدين يجوا ناس تانين يحكى ليهم ... ولما زهج خلاص قال ليهم : باريتني لو ما اذكرت نصيحة جدي وخليت التمساح أكلنى ... كان ارحم لي من حكاية القصة دى مليون مرة ويضحك الجميع.. فقد اصبح جاكوم غير المبشتن ابن نكتة وظريفاً الى أقصى درجات الظرف.. ولاحظ مشلهت أن جاكوم يمسح عرقه بين كل لحظة وأخرى.. من أين جاءه هذا العرق؟ الجميع هنا يشكون من الجفاف.. لا أحد يعرق ... البشرة ناشفة كظهر الورل.. لا أحد يملك رفاهية العرق وإضاعة السوائل ... جاكوم فقط هو الذي يتمتع بهذه الخاصية لانه لا بد أن يكون قد عاد من مكان لا يشكو أهله من الجفاف والكتاحة. كانت قصة جاكوم على كل لسان ... بعضهم يعتقد أنه محظوظ وبعضهم يصفه بأنه «شيطان».. ومنذ صغره كان «شيطاناً» فليس غريباً عليه أن يختفي مبشتناً ويعود غير مبشتن ... يقول مشلهت إنه قد غادر البلد يوماً بعد أن تشعبط في القطار من محطة الخرطوم وظل يراوغ كماسرة القطار ومفتشيه حتى وصل الى بورتسودان ... وهناك تعرف في الميناء على أحد أبناء الرشايدة.. واتفقا على الصعود ليلاً على ظهر أي سفينة راسية على المرفأ. جاكوم لا يعرف لماذا يريد الصعود الى ظهر السفينة كل الذي يدريه انه جاء الى بورتسودان دون علم أهله وانه الآن في الميناء مع أحد أبناء الرشايدة ... ففي اليوم الذي أبحرت فيه السفينة وجد جاكوم نفسه والرشايدى يختبئان وسط قطيع من الضأن كانت مصدرة على ظهر السفينة ... الأغنام والرشايدى ودوار البحر ولحظات الغثيان كانت ملازمة له في تلك الرحلة التي لا يعرفان وجهتها.. ولكن الرشايدى يؤكد أن كل السفن تفرغ حمولتها في ميناء جدة وعندما يصلان إلى هناك يمكنهما الزوغان أو هكذا كانا يأملان أن تكون خطتهما ... ولكن السفينة أبحرت ذلك الليل ونهاراً بأكمله دون أن تبدو بادرة توقف بأية صورة من الصور. الرشايدي يفتح صرة يحملها ويعطى جاكوم بعض التمر ويسقيه من ابريق يحمله وهو يقسم إن مدة إبحارهما هذه اكثر من كافية للوصول الى جدة ولكنه لا يعرف لماذا لا يصلان ... في اليوم الثالث لم يعد معهما تمر ولا ماء ... وكان لا بد أن يصعدا من مخبئهما ذلك والا ماتا وسط الأغنام كانت مفاجأة كبيرة لقبطان السفينة وبحارته وهم يشاهدون جاكوم والرشايدي يتقدمان من القبطان بخطوات متثاقلة ... استقر رأى القبطان والبحارة أن يلقوا بهما عند أول جزيرة تمر بها السفينة ولكن حدث أمر عجيب فقد أخذت الخراف تنفق بأعداد كبيرة لأسباب غير معروفة مما اضطر القبطان وبحارته الى العمل فترة طويل لفصل الخراف الميتة عن الحية والتي بقيت منها أعداد صغيرة.. ولاحت في الأفق الجزر البركانية التي نمت من داخل قاع البحر الأحمر ... يقال لها جزيرة حنيش الكبرى.. انزل البحارة قوارب وضعوا عليها جاكوم والرشايدى والخراف الميتة وافرغوا تلك الحمولة على ساحل الجزيرة «وجركانة» ماء وقالوا لهما وهم يضحكون: هذا هو الماء ودونكما الخراف الميتة ... كل الذي فعله قبطان السفينة وبحارته بالهاربين الاثنين كان شيئاً روتيناً يمارسه أولئك البحارة الإيطاليون الذين نقشوا الوشم على أذرعهم.. فبدت ذات نقوش خضراء كوشم «الحلب». *ارتمى جاكوم وصحبه في عصر ذلك اليوم على مكان وسط تلك الحجارة البركانية القاتمة اللون وهما يفكران في مصيرهما. لم تجد توسلاتهما لذلك القبطان الإيطالي ولا لبحارته ... والاستجداء بأية لغة مفهوم وليس هناك مجال لأن نقول إن القبطان كان لا يفهم لغتهما فلم يفهم توسلاتهما. ولكنها قسوة قلب أولئك البشر وقانون أعالي البحار الذي شرعوه دون قرار من هيئات دولية ... وتلك كانت رحلة الأعاجيب ... فالخراف الآن ألقى بها البحارة على الساحل اخذ بعضها يتحرك مما جعل الرشايدى يقفز مذعوراً: * يا زول شوف المصيبة دى ... الخراف اتحركت لا حول ولا قوة الا بالله. وقفز جاكوم وهو يجرى نحو ذلك الكوم من الخراف ويجد أن بعضها يتحرك فعلاً ... وقضى جاكوم والرشايدى أمسيتهما تلك وهما يفرزان الخرفان الآن عادت اليها الحياة من الخراف الآن ماتت وشبعت موتاً وكان العدد كبيراً ثمانية وستين خروفاً وقفت على رجليها ... والذي كان يفرفر ذبحه الرشايدى بسكين كان يحمله على ذراعه. * يا خوي خلى السعية في محلها دلوقت نولع لينا نار نشوى عشان زي ما قال الخواجات الملاعين ... ولى باكر الله كريم. * ظل جاكوم والرشايدى يتحدثان طيلة الليل عن عودة الروح الى الخراف التي كانت في حالة إغماء فيما يبدو ولكن بالنسبة للبحارة الإيطاليين فقد عدوها ميتة.. والآن فهما مواجهان برعاية هذه الخراف وبالبحث لها عن مرعى ومياه في هذه الجزيرة ... فهل توجد أي مياه أو مراع وسط هذه الحجارة الصماء؟ جاكوم يختصر تلك القصة العجيبة ويقول انهما استطاعا أن يجدا بعض الأعشاب وبقايا ماء كان محجوزًا وسط الصخور ويبدو أن أمطارًا قد هبطت منذ وقت قصير. وانتعشت تلك الخراف ودبت فيها الحياة ... وذات يوم اقتربت سفينة من الجزيرة رأت دخاناً يتصاعد منها فأرسلت زورقاً يستكشف ... إذ أن تلك الجزر كانت غير مأهولة... وتم نقل جاكوم والرشايدى وخرافهما الى ظهر السفينة والتي أبحرت بهما الى الصومال. الصوماليون لهم خراف تشابه الخراف السودانية ويطلقون عليها اسم البربري ولهذا عندما وجدوا تلك الخراف السواكنية كانت فرحتهم بها كبيرة ... دفعوا فيها أموالاً لم يحلم جاكوم ولا الرشايدى بها. جاكوم يقول انه وصاحبه الرشايدى ظهرا بمظهر تجار المواشي وانهما يمكن أن يفتحا تجارة للمواشي السودانية بين السودان والصومال ويخبره الرشايدى أنه كان يجلب الخراف السودانية بالسنابك لعدة موانئ على ساحل البحر الأحمر وفى القرن الإفريقي ... وأخذت مظاهر «البشتنة» تختفي تدريجياً عن جاكوم وقد اصبح له حساب في البنك ويحمل جواز سفر صوماليًا وآخر أثيوبيًا وآخر يمنيًا... إلا أنه لم يتجرأ لطلب جواز سفر سوداني ... وظل يعمل بتلك الجوازات في منطقة القرن الإفريقي والخليج الى أن تحصل على جواز سفر سوداني أخيراً من إحدى السفارات السودانية في الخليج وبمساعدة أحد الأشخاص الذين يعرفهم وعاد الآن إلى حيه القديم في العرضة بعد عشرة أعوام قضاها يجوب أعالي البحار كالسندباد البحري بعد أن تخلف عنه الرشايدى في مقديشو بعد أن تزوج صومالية فاستقر معها ومع أسرتها تاركاً الحركة لجاكوم ... الذي كان يحن لكلمة مبشتن من أي شخص... وها هو يعود الآن إلى حي العرضة ولم يجد من يجرؤ على إضافة لقب مبشتن الى اسمه.. لقد فارق البشتنة فراق ذلك الطريفي لجمله ...