عُصبة الشر لو استطاعت النهوض من جميع الكبوات التي اجترحتها، فلن تستطيع النهوض أبداً من كبوة أم روابة وأبو كرشولا، فمن الذي يُنكر فداحة الجُرم الذي اقترفته في تلك الديار، التي لو هدرنا بوصف جمالها، وحسنها الأخاذ، من الصبح إلى الأصيل لما أوفينا مروجها الخضراء، وبواديها الزاهية، وطبيعتها الآسرة، حقها من المدح والثناء، فهي الغاية التي تُلهِب العواطف، وترهف الأحاسيس، وتذكي الأرواح التي تخونها الكدر والملال لأن تضج بالحياة تحت أخياف فتنتها الطاغية، فتلك الأماكن الوادعة الحانية التي خلت حواشيها منذ قديم الأزل من جموع العسكر، اجتاحها أصحاب الحظوظ الكاملة من العمالة، والفواضل المتتابعة من الغدر، والعوارف المنتظمة من مخاتلة الدنايا، استباحتها طوائف طُبعت على اللؤم والخسة، وجُبِلت على الشر وخُبث الطوية، فئات اعتادت أن تنال من المتصدية العنون، والجامحة الحرون، جزيل الثواب، وتنجو بفضل تهافتنا على السلام المُذل من وبيل العقاب، فالذين أذاعوا في الناس معاني البؤس والذُعر، رأينا بعضهم وقد تقلد أرفع المناصب، وحاز أعلى الرتب، ولم يخفق قلبه قط بهوى الأوطان، أو يسعى لسموه بين البلدان، ولعل السذاجة وحدها هي التي أعانتنا على أن نتصور بأن من أمطرنا بأحاديثه الغثة المتداعية التي شابها الهزال، وأحاط بها الابتذال، عن السلام والتنمية وهو في سدة الحكم، لن يلتفت ذهنه مرة أخرى إلى مدلول القتل والصيال، فدول البغي والاستكبار تروض أذنابها على الحذلفة والاغراب، والانتقال من القصور المشيدة، والصروح الممردة، إلى التبلغ بيابس النبت، وآسن الماء في القفار الموحشة، لتبدأ بعدها وتيرة الدم المسكوب، والحق المغلوب، والعرض المسلوب من جديد، فخيانة العهود، ونقض المواثيق، وجحد الأعراف، وإزهاق الأرواح، جرائر تجُبها المفاوضات، وكبائر تمحوها المساجلات، في أرض النيلين، ومن موجبات الأسى في عاصمتنا المثلثة التي تنفجر العزة من جوانبها، والشموخ من نواحيها، أنها أضحت صاحبة ثقافة ثابتة الأصول، فهي تحرص على السلام حرص الشحيح على ماله، وإن أعرض خصمها عن ذلك وناء بجانبه عنه، ونسيت أن من كلّت بصائرهم، وسقمت ضمائرهم، يحنون دوماً إلى حياة الغاب، ولا يؤمنون إلا بالظفر والنَّاب، فحتى متى تنشد سلام استوفت منه معاني المرارة، حتى متى تبتسم في وداعة، وتعانق في ألفة، وتصافح في أريحية، جهات سقتنا الصاب والعلقم، دعمت وما زالت تدعم الحركات المارقة التي لا دوام لعهدها، ولا بقاء لوصلها، ولا وفاء لعقدها، هذه الحركات التي تم ترويضها واستئناسها من قِبل الدول التي تنصب لنا شراك الفتنة، وتحمل لنا خصائص الفناء، هي التي استباحت الأعراض، وقتلت الأبرياء، وشرَّدت الأطفال، فأم روابة التي ظلت طوال عهدها آمنة من كل سوء، نابية عن كل فتنة، استّحر فيها القتل، وأثخنت فيها الجراح، وانتشر فيها النهب، وطافت بها غواشي لم تجتلها العين، أو ترصدها عدسات التصوير، وأبو كرشولا رواية أخرى أثارت في دواخلنا مكامن الغضب والاستياء، رواية نختلف مع بطلها أشد الاختلاف، وننكر عليه أشد الإنكار صنيعه بقاطني أبو كرشولا، فقد حاد عن السجية، وأوغل في الهمجية، وأمعن في البربرية، ولم يرحم أهل الفطرة السوية، الذين لم يدخلوا معه قط في سجال، أو ينبروا في جدال، فهم كما نعلم من صنوف البشر الذين لا يتطلعون لنيل مباهج الحياة، لا تهمهم بحبوحة الملك في شيء، لم يقتنوا العمائر والضياع، أو تحدثهم أنفسهم بالاستحواذ على القصور والقلاع، فلم قتلتهم؟؟ أنا أعلم أنك سوف تمضي في تنفيذ ما أملته عليك المتصدية العنون، والجامحة الحرون، غير مكترث بمن يرضى أو يسخط، ولكن هناك سؤالاً يطرح نفسه بإلحاح هنا، فأنت تدعي في صفاقة بأنك لم ترتد لأمة الحرب وتخرج إلى ساحات الوغى وتجابه المركز، إلا لأن له قلباً أقسى من الحديد، وأعتى من الصّوان، وأصلب من الجلمود، لم تأصِره على عترتك آصِرة، أو تثنه عليهم عاطفة، فماذا صنعت أنت بذويك وأهلك؟؟ لقد مكثنا منذ أن تناهى إلى أسماعنا سقوط تلك الجنة الوارفة ذاهلين واجمين، نقلِّب الأكف أسى وحسرة على شيخ قضى، وشباب مضى، وأوجه تنم ملامحها على الخير والجمال روعت أحلاسها، وأضرمت أنفاسها، ولم تجتهد لإخفاء جرمك المشهود، وما زالت صروح «حدبك» تلهم عقولنا، وتشحذ أفكارنا. نعدك أيها المشبل العطوف بأن قواتنا الباسلة سوف تجزيك خير الجزاء بفعل محكم سديد فضل ما عانيت، أسأل الله أن يتغمد ضحايا الغدر برحمته، وأن ينزلهم منزلة الشهداء في جنته.