هل سيعتزل د. الترابي قريباً السياسة؟ أعتقد أن الكثيرين بما فيهم المقربون منه لا يجدون إجابة قاطعة لهذا السؤال، ذلك بالرغم من ولع د. الترابي بالتأليف في مجال الفكر الإسلامي لكن ليس من المنتظر أيضاً أن يتخلى عن السياسة لأنها باتت جزءاً من وريده وشرايينه التي يتغذى بها، لكن لعل هناك علاقة جدلية بين إصرار د. الترابي على الاستمرار في التعاطي السياسي وبين التركيبة الداخلية الشخصية التي امتزجت بين الفكر والسياسة والكارزمية والجنوح نحو التفرُّد إلى حد الانشغال بصناعة المواقف والآراء التي تمد لسانها للإجماع والاستقراء الجمعي، لكن البعض ينسب ذلك للقدرات النوعية التي يمتاز بها الدكتور، فتأبى الانحباس والانغلاق، بينما يعتبرها البعض الآخر غير منفصلة عن الأزمة الشخصية ببعدها النفسي والاجتماعي والبيئي ولهذا فإن التعاطي السياسي والفكري للدكتور الترابي لا ينفصل عن هذه المعطيات والتركيبات المتلازمة؛ فعلى صعيد التنظير السياسي التنظيمي داخل الحركة الإسلامية كانت للدكتور الترابي نقوش واضحة، فهو استطاع أن يخلق بنية تنظيمية متماسكة حتى تحوّل التنظيم إلى خلية متفاعلة في الحراك السياسي والاجتماعي فتمدد كماً ونوعاً بقدرٍ مقدر، إلا أن السؤال هنا: إلى أي حد استطاع د. الترابي أن يحوِّل هذه التفاعلات الإيجابية كمنظومة تنظيمية بعيداً عن المركزية والفردية من حيث المؤسسية والشورى والنأي عن الارتباط «الفرداني» الضيِّق بحيث يصبح هو الزعيم والمخطط والمشرف والمتابع وصاحب القرار النهائي. ولعل هذا الإطار المرتبط بشخصية د. الترابي هو الذي عمل على دمغ الحركة الإسلامية بالحلول البرجماتية باعتبار أن التنظيم نفسه بما يحمله من مرجعيات وأدبيات ومفاهيم تتنزل بجهد المعاونة الجماعية وفق قيم الشورى والمؤسسية إلا أنها عندما تغيب يصبح الزعيم في حاجة إلى الحلول الفردية لمواجهة الأزمات والمواقف التي قد تتقاطع في كثير من الأحيان مع تلك الأطر والمفاهيم وتصبح في النهاية عدوى تنتقل تلقائياً إلى مفاصل الجماعة، فيتحول التنظيم من البُعد الروحي الشفاف كمرجعية ومرتكز أساسي إلى تنظيم إسلامي هيكلي في إطاره الشكلي حتى يصعب التفريق بينه وبين التعاطي السياسي داخل المنظومات السياسية الأخرى ثم لا تبقى إلا المظاهر الشعارية والهتافية النمطية ويختل التعاطي العقلاني المتوازن الذي يستصحب الوجدان القلبي فتصبح الحلول التنظيمية داخل الجماعة عرابها الترتيبات العقلية الجافة غير المتكئة على جوامع الداخل الممتزجة ببصيرة المؤمن النقي. وهكذا أبحر د. الترابي بمركبه الذي أمسك بمقوده شاقاً الأمواج المتلاطمة مواجهاً حيتان البحر الشرسة بل حتى مراكب الصيد الوادعة التي تريد أن تبحر بسلام في بحر لا يملك أحد شرعيته. وعندما تهيج الرياح أو تزداد الحيتان شراسة قد يستأنس الدكتور بركاب مركبته ولكنه يعزم ويتوكل لوحده دون أن يتململ أحد إلا نادرًا أو ربما معارضة خجولة لكنها تطيح دائماً صاحبها بعيدًا عن المركب. وهكذا تصبح السياسة لدى الدكتور الترابي مركبة «حدادي» وقفطاناً يصعب خلعه وعرشاً لا يمكن التنازل عنه وتصبح الآراء الدينية ليست مجرد وثبة تجديدية لازمة للفكر الإسلامي ولكنها ضرورة للتمايز ومد اللسان إلى وجوه «القُصّر والأغبياء»، فهي لا تتواضع مع المرجعيات والثوابت المعلومة والمستقرة في الدين أو حتى المتلائمة مع المستجدات الآنية طالما هي ستصبح إطاراً ذاتياً للتفوق على «النمطيين والمتحجرين»، ثم تصبح «لزمة»، للشخصية الكارزمية المميزة فتشكل لها إطار المفكر الذي يبزُّ كل أقرانه في العالم الإسلامي. ولهذا تبقى السياسة لدى الدكتور الترابي أكسجيناً لا يمكن الاستغناء عنه، لأنها هي التي تعطي أراءه الفكرية ألقَ التوهُّج، من هنا فهو يرفض التنحي عن معتركات السياسة والانكفاء في ملعب الفكر والتأليف فقط، ولهذا فهو اختارها ربما حتى إشعار آخر إن لم يكن حتى الممات.