سؤال يدور في خلدي منذ زمن طويل إلى أين يمضي السودان؟! فالأمر تخطى نظام الحكم البائس ومعارضته الخائرة إلى وجود السودان نفسه، بعد أن أصبح الأمر ليس إسقاط النظام كما الحال في الثورات في كل العالم، إنما الأمر هو إبقاء السودان. إسقاط النظام أمر ليس بالصعب لعوامل كثيرة، منها أنه نظام ضعيف، وقد عمل على عزل نفسه عن مواجهة موجة الغلاء الذي يجتاح البلاد، وحتى في مسألة اللحوم كان نصيب النظام في حل الأزمة هو النصيحة بمقاطعتها، وهذا ليس حلاً للقضية، فالغالبية العظمى من الشعب الفقير لا تتعاطى اللحوم أصلاً. ومن الأسباب أيضاً أن النظام صار لا يعبأ بالنقد ولا حتى بالهجوم العنيف على سياساته وحتى الإطراء لا يؤثر فيه، فلا يلتفت الى ثناء أو عتاب أو نصح، فأصبح في وادٍ والبقية في آخر، ولا تواصل بينهما سلبياً كان أم إيجابياً. الانهيار الذي حدث للعملة السودانية في مقابل الدولار يجعل أي طفل يضع يديه على رأسه من هول ما يرى، بينما نجد النظام لا يهتم ويصرح وزير المالية بأن تفسير ما يجري بأنه انهيار كلام فارغ. ورغم بؤس النظام وهشاشته فإن إسقاطه بأي حال من الأحوال يعني الفوضى، الأمر الذي يقود إلى تفتيت البلاد، والقوى الأجنبية على الحدود تنتظر هذه اللحظة لتضع البصمات الأخيرة لسيناريو السودان الجديد، وعناصر ذلك السودان اثنان هما الإحلال والإبدال. ذات السيناريو الذي طبق على الأندلس التي كانت تعبد الله الواحد الأحد، وتحول نظام حكمها التوحيدي الى حالة نظامنا اليوم فحق عليها العذاب. إن السودان في هذه المرحلة الحرجة يحتاج أول ما يحتاج لتقدير الموقف، وذلك بالوقوف مع النفس حتى تستطيع الوصول لذلك التقدير. وهذا ما نوهت إليه في مقال سابق وأشرت إليه بالنفس اللوامة. هل يا ترى حدث تقدير الموقف من جانب النظام الحاكم أو من معارضته؟ لم يحدث هذا، فالنظام يفسر خاطئاً أن عدم الاحتجاج والتظاهر ضده إنما هو تأييد، والصمت هنا ليس علامة للرضاء على كل حال، أما المعارضة اليائسة البائسة فكل همها اليوم بعد عجزها عن إسقاط النظام هو المشاركة من أجل المطايب كما عبر أحد زعمائها. وقد أصاب الشعب اليأس من كليهما وأدرك تماماً ألا خير في الاثنين. الشعب يحتاج الى تقدير موقف يشرح أحوال الوطن وما آل إليه من حال بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال وبالذات في العقود الثلاثة الماضية، التي انتقل فيها السودان من حكم عسكري الى مدني ثم الى عسكري تارة أخرى. الشعب يريد الحقيقة لتقدير أين يقف ومع من ولماذا؟ وهذا ما عجز كل من نظام الحكم والمعارضة عن تفسيره لشعب يتقاتلون على حكمه، بينما ذات الشعب لا يعرف الحقيقة لتحديد مع من يقف، الأمر الذي جعل الشعب ينصرف عن كليهما. الشعب يريد حواراً وطنياً جاداً ومكثفاً تشارك فيه فئاته المختلفة ممثلة في شكل مثقفين وشباب، لا تلك الحوارات التي تُدار في الخفاء مع رؤساء أحزاب بلغوا من العمر أرذله وتشظت أحزابهم وتمزقت وضاع بأسها بينها. إننا بحاجة لأن يكون هذا الحوار والتشاور قائماً على أساس من الوضوح والثقة، ويحتاج الى حكمة تديره لتحافظ على وحدة ما تبقى من الوطن، وهذا الحوار حوار مصيري وليس لاقتسام كعكة السلطة الوهمية التي شارفت بسببها البلاد على الإفلاس والزوال من الخارطة السياسية والجغرافية. ما يحتاجه السودان اليوم هو حوار مبني على القيم ومكارم الأخلاق التي بعث من أجله إرسائها منقذ الإنسانية رسول السلام عليه أفضل الصلاة وأجمل التسليم. قليل من أركان الحكم وكذلك قليل من المعارضة يتمتعون بالقيم ومكارم الأخلاق، وكثير خلف الكواليس ممن أهملتهم الحكومة ومعارضتها موجودون على الساحة لكن بلا صوت. كثير من أحزاب المعارضة بل أن غالبيتها خانها الزمن، فقادتها يعيشون في زمن غير زمنهم. وقد بلغوا من العمر ما يجعلهم لا يفكرون في المستقبل، فالمستقبل بالنسبة لهم هو ما يعايشونه الآن، ومضى زمان تفكيرهم في المستقبل قبل نصف قرن من الزمان حين كانوا شباباً، أما اليوم فليس لديهم ما يخسرونه ما دام مستقبلهم قد ولى. أما أركان الحكم فلا يفكرون في مستقبل ما داموا لا يجدون معارضة تطالبهم به، فأصبحوا سجناء حاضرهم ومقاعدهم، فلا أحد يطالبهم بمستقبل وهم مرتاحون لما بين يديهم، والمستقبل في مفهومهم من الغيبيات..! وبين هذا وذاك يضيع السودان..! ما العمل؟!. من سيجري هذا الحوار المقترح؟! وكيف يُدار الحوار والطرفان النظام والمعارضة كل يريد نصيباً من كعكة تفقد تماسكها كل يوم لتتفتت آخر الأمر؟ ماذا لو سلمت السلطة لمجلس عسكري ليقوم بدوره بتشكيل حكومة انتقالية، وحتى لا يختلف الجميع حولها تكون هذه الحكومة مشكلة من التكنوقراط الذين يبنون ما تهدم، ليقدموا الخدمات الضرورية لذلك الشعب، ممثلة في توفير المياه للزراعة والمرعى والشرب، وفي تسهيل التواصل بين أجزاء السودان بالرابط الأصيل السكة حديد الذي يضمن نقل الإنتاج بالأسعار الرخيصة التي تجعل من صادرات السودان تنافس في الأسواق العالمية، فموارد البلاد غنية ومتوافرة، ولا يدركها أهل السياسة، بل يستغلها أهل العلم، الذين لا صوت لهم. فترة انتقالية يشفي فيها السودان من أمراض استوطنت فيه بسبب أنظمة الحكم التي تواترت عليه وبسبب معارضات تلك الأنظمة. حكومة يوجه فيها العلم السياسة وليس العكس، حكومة كهذه يقبل بها الشعب فهي تمثله حق التمثيل، أما المجلس العسكري فهو من جيش البلاد الباسل الذي لا تتوافر القومية الحقيقية إلا فيه، وهو الذي يمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً، وما من قبيلة أو أسرة أو عائلة إلا وسكبت دماً طاهراً ذكياً فيه، فهو المؤسسة الوحيدة التي تمثل الشعب دون رياء.