استلم جابر الريالات.. لكنه لم يهنأ بها.. ما السبب وماذا فعل بها؟ حكى عمنا «السيد يوسف» هذه الحكاية الطريفة من الجزيرة، والتي حدثت من قبل الإنجليز، وكان المزارعون حينها يخلصون للأرض ولا يجدون ما يوازي جهدهم عطاءً، بالرغم من أن معظم ميزانية السودان في ذلك الزمان تعتمد على إنتاج المشروع وجهد المزارعين. قال عمنا السيد: كان كثير من المزارعين يذهبون للصرف نهاية كل دورة، فيطلع بعضهم «حبايب» لا يتحصل على شيء من المال، والبعض «مطلوب» والقلة كان يجود عليه الصراف ببعض المال. والمزارع عادة ما يتسوق من سوق المدينة إذا حالفه الحظ فصرف، فيعود للقرية باحتياجات الأسرة وبعض الفاكهة، فكان الذي يصرف أيضاً يجود على زميله الذي لا يصرف حتى لا يعود لأهله حزيناً. وصادف أن ذهب مزارع وصديقه للصرف، فكان نصيب الأول أن قال له الصراف:«حبايب»!! فخرج ينتظر صديقه في الخارج بالقرب من حماره، أما الثاني ويدعى «جابر» فقد بقي واقفاً أمام الصراف والصراف يراجع الكشف، فقال له الصراف: جيب «ختمك».. معنى ذلك أن جابر طلعت ليهو قريشات. ثم جرّ الصراف الدرج وأخرج عدة «ريالات أبو عشرين».. الريال كان في الزمن داك قيمتو كبيرة جداً، وبدأ يعد لي «جابر» وجابر ينظر في ذهول ويتلفت في المكتب فتأكد أنه هو الوحيد. وكثُرت الريالات حتى بلغت عدداً لم يصدقه «جابر»، ثم توقف الصراف وقال له: شيل يلا مع السلامة. أخرج «جابر» «كيسه» وحمل تلك الريالات وخرج مسرعاً مضطرباً يتصبب عرقاً، ولو لاحظ الصراف ذلك لشك فيه. ووجد «جابر» صديقه «بلة» في الخارج بالقرب من حماره، فركب جابر حماره أيضاً بعدما فكاهو من القيد بصعوبة نسبة للاضطراب الذي لاحظه صاحبه فصاح فيه قائلاً: مالك بترجف يا جابر؟ رد جابر قائلاً: أركب الحقني خلي الكلام الكثير ثم انطلق «جابر» بحماره المشاي مسرعاً، وكان صديقه «بلة» يجد صعوبة في مجاراته ولم يعرف الحقيقة المدهشة إلا بعد أن وقف جابر قريباً من القرية، وفي ذلك اليوم طبعاً لم يدخلا السوق كما اعتادا عقب كل صرفة، فقد ظن بلة أن صاحبه لم يصرف وأنه اصيب بإحباط. قال «جابر» لبلة بعد أن أوقفا حماريهما أمام بعضهما البعض وأخرج الجزلان من جيبه: شوف ده شنو يا بلة؟ دهش بلة وشهق، ورد عليه: ده شنو يا مصيبة قطع شك الصراف غلطان.. والشي ده بجيب ليك مصيبة وبتنكشف يا شقي الحال. رد «جابر» اسكت ساكت لمن نشوف الآخر.. دحين زول اداني قروش اقول ليهو لا؟ خلي الموضوع في سرك يا بلة.. أنت عارف ناس الحلة كويس. ظل «جابر» خائفاً يترقب ويتصيد الأخبار، وفي كل يوم يذهب ويجلس في ديوان العمدة من الصباح الباكر وحتى المساء، وكلما شاهد اثنين يتكلمان بصوت خافت يدنو منهما ويسأل: في شنو يا أخوانا.. ورونا الحاصل شنو في البلد؟ فكان بادي الاضطراب خائفاً.. ولكن لم يخطر على بال أحد أن جابر يحوز على ريالات بذلك العدد!! وفي يوم من الأيام وعند الضحى وجابر في ديوان العمدة شاهد من على البعد عسكري «هجانة» يركب جملاً مسرعاً لديوان العمدة. واضطربت أوصال «جابر» وتصبب عرقاً، وحينما اقترب العسكري من الديوان كان «جابر» يقف أمامه تماماً وأناخ له الجمل.. وعندما برك الجمل على رجليه الاماميتين أصبحت اذن العسكري بالقرب من فم «جابر» فسأله: نعل ما في عوجة يا حضرة العسكري؟ قال: العسكري: ما في عوجة. ولم يطمئن «جابر» فأردف قائلاً: قول لو قليل ولا كتير الحاصل شنو؟ .. استغرب العسكري الحاحه وقال له: لا لا أنا جيت للعمدة بخصوص تحصيل رسوم القطعان.. إنت مالك يا زول؟ فارتاح «جابر» وانصرف لحاله. مرت أيام حاول بعدها «جابر» يستثمر المبلغ بعد أن اطمأن بعض الشيء، ففتح هو وصديقه بلة دكاناً ووضعا على الأرفف احتياجات بسيطة سكر.. وشاي.. بن الخ لكن كان كلما مرّ عليهما أحد أفراد القرية يسأله الحاصل شنو يا «جابر» انت كتلت ليك زول؟ ... من وين يا زول جبت القروش دي؟!! والناس كلها في القرية حالتهم واحدة.. وفي ذلك الزمن لم يكن هنالك اغتراب.. ولذلك لم يهنأ الصديقان بهذا المال. الحكاية الطريفة التي رواها عمان السيد لم تنته عند هذا الحد.. فهي تمتد إلى زمان تختلف فيه القيم فلا يوجد اليوم إكتراث وفاعلية لمفهوم «من أين لك هذا».. أما جابر فربما يكون قد صرف استحقاقه عبر السنين التي ظلم فيها.. وان الصراف «ما داقس».. لكن المجتمع المعافى في ذلك الزمان كان رقيباً على نفسه، فالناس يدركون حال بعضهم البعض ويؤمنون بأن السماء لا تمطر ذهباً ولا دكاكين مليئة بالسكر والشاي والبن.. الخ، أما اليوم فإنها اصبحت تمطر عربات فارهة وڤللاً وعمارات، والسماء اصبحت تمطر أكثر من ملايين الدولارات، بل وصل مطرها الغزير للمليارات بالاعوج والعديل والاعوج غالبية!! فلا جدوى اذن ل «من أين لك هذا؟».. والاغرب اليوم أن من يأكل يبدو واثقاً من أن الصراف «دقس».. وربما يكون الصراف تعمد أو اشترك والبياكل براهو «يخنق»!! وهذه اصبحت إحدى القواعد.