السينما المتجولة تلك الظاهرة التي سادت في السودان في فترة الحكم الإنجليزي وأسست وحدة أفلام السودان في عام 1949م كأول وحدة إنتاج سينمائية سودانية وقد أنتجت أفلامًا وثائقية وإعلامية كما وثقت للحياة آنذاك بجانب أهم الأحداث والمشروعات في السودان، وشهد منتصف أربعينيات القرن الماضي بداية السينما المتجولة حيث استجلبت الآليات اللازمة وأنتجت الأفلام التعليمية والإخبارية، ويعقب عرض هذه الأفلام في المجتمعات المحلية الشرح والتعليق من المختصين في الصحة والزراعة والتعليم، كما أن توقفها يرجع إلى عدة عوامل أهمها ضعف التمويل، وبُعد المسافات بين المديريات، وعدم اهتمام بعض الحكومات بها خاصة بعد ظهور التلفزيون مما أدى إلى اختفائها... فالسينما المتجولة أصبحت الآن مجرد ذكرى... تاريخها في السودان: أرجع الأستاذ المرحوم كمال إبراهيم أول سيناريست ومخرج السوداني بقسم الإنتاج السينمائي وحدة أفلام السودان في كتابه «السينما في السودان» أن بدايتها في منتصف أربعينيات القرن الماضي عندما أيقنت الإدارة البريطانية في السودان أهمية المخاطبة الجماهيرية بواسطة الصورة المتحركة بدلاً من الكلمة المقروءة أو المسموعة ونسبة لعدم وجود دور عرض في الأقاليم، استجلبت السلطة ممثلة في مكتب الاتصال العام التابع لمكتب السكرتير الإداري لحكومة السودان عربة سينما متجولة من كينيا وذلك في عام «1946م» وقامت العربة بالتجوال في قرى الجزيرة المروية كسند لبرنامج تعليم الكبار، وبنجاح هذه التجربة في التعريف والتوجيه الدعائي والسياسي تم بعد ذلك استيراد «9» عربات كومر إنجليزية وتجهيزها للعرض السينمائي المتجول بنفس مواصفات العربية الأولى المستوردة من كينيا كما تم تعيين مشغلين ومعلقين لعربات السينما المتجولة، وكانت تلك العربات تجوب ربوع البلاد على مدار السنة بأفلامها السودانية والوثائقية التي أنتجتها وحدة أفلام السودان بعد إنشائها «1949م» من أجل إبراز ما أحرزته البلاد من تقدم في عمران وهي تحت الإدارة البريطانية، وقام قسم السينما المتجولة في إدارة المخاطبة الجماهيرية بزيادة عدد عرباته لتصل إلى أربعين عربة في السنوات الأولى للحكم الوطني وعملت جميعها على نشر الوعي السياسي للأهالي في البادية بجانب نشاطات رجال الحكم الوطني الأول لثبيت معاني ومفهوم الحكم الذاتي والاستقلال في أذهان المواطنين وكان له أثر عميق في نفوس المشاهدين، وأضاف أن عدد عربات السينما المتجولة حتى منتصف الستينيات زاد عن أربعين عربة وتوقف رويدًا رويدًا معظمها عن العمل لأسباب إدارية ومالية. وأضاف بدر الدين الصافي فني صيانة وتشغيل بالمركز الوثاقي في التلفزيون القومي أن أول عربة للسينما المتجولة عملت في مشروع الجزيرة في توعية زراعة القطن والآفات وذلك بعرض أفلام قصيرة تتراوح مدتها ما بين «5 إلى 10» دقائق. عربة السينما المتجوِّلة: وعن شكل عربة السينما المتجولة أضاف بدر الدين أنها عبارة عن عربة لاندروفر تقف بشكلها المميَّز، وتنصب الشاشات البلاستيكية أو شاشة الكتان من القماش الأبيض أو الشاشات التي صُمِّمت لهذا بجانب مكبرات الصوت ومول كهرباء ليدير بكرة جهاز العرض مقاس «16» ملم ليعرض شريط العرض السينمائي، وزاد في حديثه قائلاً إن العروض كانت تضم آلاف الجماهير كما كانت تقام أيضًا عروض خاصة في المدارس والجامعات بجانب أن هنالك طلبات متزايدة من الجماهير عليها وأضاف أن إدارة الإعلام في الأقاليم المختلفة كانت دائمًا تُطلب من إدارة المخاطبة الجماهيرية وحدة السينما المتجولة الأفلام والعروض المختلفة، وأشار إلى أن العربات كانت تتوقف عن العرض طيلة فصل الخريف وتأتي إلى الخرطوم لصيانتها وتجهيزها للموسم القادم، وأشار كمال إبراهيم إلى أنه يتم الاتصال بعمدة أو شيخ المنطقة وتقوم الوحدة الإدارية بالتنسيق معه لاختيار ساحة العرض، وفي كثير من الأحوال تبقى العربة في ضيافة أهل الحي لمدة ثلاثة أو أربعة أيام ويأتي أهل القرية والقرى المجاورة أفرادًا وجماعات إما على ظهور الدواب أو مشيًا على الأقدام بعضهم حاملين صغارهم، يتلاقى أهل القرية البعيدة مع القرية المضيفة للسينما يتبادلون الأخبار ويتحدثون في أمور شتى فرحين بمجيئهم لمشاهدة السينما فهي حدث عظيم بالنسبة لهم ويبدأ العرض بعد مغيب الشمس وصلاة المغرب يستمعون للأغاني والأناشيد الوطنية المسجلة وما تبثة إذاعة أم درمان من أخبار من راديو العربة ثم العروض السينمائية، وكانت تعرض أفلامًا ترفيهية وإرشادية وأحيانًا وثائقية. أبرز الأسماء: من أبرز الأسماء التي ارتبطت بالسينما المتجولة وليم إسكنر أول مدير لوحدة السينما المتجولة و الخير هاشم والمهندس عبد الكريم عثمان الذي صمم «8» عربات للسينما المتجولة وحسن أحمد رجب ومن المخرجين جادة الله جبارة وكمال محمد إبراهيم وإبراهيم شداد وغيرهم... القضايا التي عرضتها: وحول ذلك أكد عوض الله الضو رئيس اتحاد السنمائيين السودانيين وبدر الدين الصافي أن أفلام السينما المتجولة تناولت التوعية بالآفات الزراعية بجانب الأفلام الترفيهية والعلمية والثقافية وعن المشروعات والتنمية بجانب الحقب التاريخية التي مرت على السودان منذ فترة الإنجليز والاستقلال وعبد الله خليل والفريق عبود ونميري إلى أن توقفت في عام «1987م» واشتملت العروض على أفلام ترفيهية مصرية وإنجليزية وكرتون «ميكي ماوس ولاري وهاردي وشارلي شابلن» من الأفلام الروائية السودانية التي عرضت خلال السنما المتجولة «تاجوج» وهو فيلم يجسِّد قصة الطيب صالح و«آمال وأحلام وبركة الشيخ» الذي تناول الطرق الصوفية وفلم «البوساء» و«رحلة عيون» وهو فلم مشترك في الإنتاج بين السودان ومصر وفلم «الشروق والطفولة المتشردة» الذي ناقش قضية أولاد الشوارع وأفلام عن التراث السوداني الفيلم الذي تناول «الزار» كعادة اجتماعية موجودة وناقشه من الناحية الطبية، وفلم «المنكوب» الذي ساهم في محاربة عادة التدخين والخمور مع توضيح عواقبها وأثرها، كما أنها لم تغفل عن الجانب الصحي بجانب العديد من الأغاني المصورة مثل أغنية «ألوان الزهور» والعديد من الأفلام التوجيهية، ومن ناحية السياحة فقد أُبرزت من خلال أفلام عرضت المناطق السياحية في السودان جبل مرة والصيد في جنوب السودان وأركويت وحديقة الدندر لافتًا إلى أن هذه الأفلام كانت ملونة وكانت توزع هذه الأفلام على سفاراتنا بالخارج والجاليات أيضًا، وأضاف عوض الله أن عربات السينما المتجولة كانت تمد بنشرة إخبارية أسبوعية تسمى «الجريدة الأسبوعية» تعدها إدارة المخاطبة الجماهيرية تعرض على الجماهير قبل العرض لربطهم بالأحداث، وأرجع أسباب توقفها إلى عدم صيانة العربات حيث إنها كانت تحتاج إلى قطع غيار من الخارج بجانب الميزانية كما أنها تحتاج إلى عائد مادي وعدم وجوده هو الذي يعيق مسيرتها، وناشد الدولة أن تعمل جاهدة لإحياء دُور السينما في السودان عامة والسينما المتجوِّلة خاصة.