كتب شارلي شابلن رمز الفنّ العبقريّ الجميل، قصة حياته في صورة اعترافات حزينة، في لحظات أعقبت إشراق شمسه، ونجاحه الأسطوري الساحق. وذلك لكي يضع رأسه في حجمه الطبيعي!. في حلقات متلاحقة سنقلب صفحات من حياة شابلن، ينبعث منها عطر شارلي، في الإمتاع والصراحة والعفوية والإنسانية العميقة، في تطور عبقريته وقضايا فنه، وصداقته آينشتاين ولقائه ماوتسي تونج، وتألقه المضيء، الذي انتهى بطرده من أمريكا!. هذه الحلقات التي تُبرز علاقة شارلي بأمِّه. كانت أمّ شابلن بالنسبة إليه، كالبسملة في حياة المسلم، فلا يبدأ حديثًا إلاّ بها. كانت تتردّد في حياته، كما يتردّد الضوء في مصباح (النيون). كتب الشاعر الإسباني (لوركا)... ياقاطعَ الأشجارِ... إقطعْ ظلي عني... فإني لا أحبّ أن أرى نفسي بلا ثمار... وها هنا شارلي شابلن في حالة مثيلة... كأنَما يبحث عن من يقطع ظله... أو يكنسه... مثلما رسم الفنان الراحل عمر خيري لوحة الرجل الذي يكنس ظله... أيضًا في حالة مثيلة ولِدت قصيدة... (وتخاف شمسي من ظلالي). يا قاطع الأشجار... إقطع ظلّي عنّي ذات يوم جاء إليَّ الأطفال وأخبروني أن أميّ أصبحت مجنونة. فقد صارت تحمل قطع الفحم وتوزعها على الأطفال في الشارع وتقول لهم هذه هدايا عيد الميلاد. وفي يوم آخر جاءت أمي إلى البيت وقالت بصوت ضعيف: لقد كنت أبحث عن «سيدني»، لقد أخذوه بعيداً عنّي وأخفوه. عندئذٍ عرفت أن ما قاله الأطفال كان صحيحاً. عرفت أن أمي قد أُصيبت بالجنون. فبكيت في تشنج: لا يا أمي، لا تقولي مثل هذا، لا تقولي... لا، لا، لا، دعيني أدعو لك طبيباً، فواصلت حديثها وهي تربت على رأسي: «ناس» مكارثي يعرفون أين هو، وهم الذين أخذوا سيدني بعيداً وأخفوه، فقلت صارخاً: أمي دعيني استدعي لك طبيباً. ونهضت وذهبت باتجاه الباب. فنظرت إليَّ بتعبير متألم قائلة: إلى أين تود الذهاب؟ فقلت: أدعو طبيباً، ولا يستغرق ذلك وقتاً طويلاً. لكنها لم تجب، وظلت تتابعني بنظرة قلقة. وهبطت الدرج مسرعاً إلى منزل مالكة البيت وقلت: أمي ليست على ما يرام، ويجب أن أنادي الطبيب. وجاء الطبيب، ليعلن أنّها مختلّة عقلياً، وتعاني من سوء تغذية. وأمر بأخذها فوراً إلى المصحة، فلملمت ملابسها، وألبستها. كانت تطيع كطفل. كانت ضعيفة جداً، كأنما هجرتها إرادتها. وعند تحركنا من البيت، كان الأطفال والجيران قد تجمّعوا يتفرجون، وقد وقفوا في رهبة مرعوبين، أمام البوابة الرّئيسيّة للبيت. كانت المصحّة تقع على بعد ميل، ومشيت مع أمِّي وهي تترنَّح من الضَّعف من جانب إلى جانب كأنها سكرى، وأنا أسندها، وشمس الظهيرة السّاطعة، تكشف بقسوة عورة مأساتنا. كان الناس الذين يمرُّون بنا في الطريق يظنون أن أمي سكرانة. لكنهم بالنسبة إليَّ كانوا كالأشباح، لا أحسُّ بهم. كانت أمي لا تتكلم ولكنها تعلم إلى أين تسير، كانت تحسّ بقلق، وكنت أشدُّ من عزمها في الطريق، وأبتسم، لكنها بسبب الضعف لم تكن قادرة على الكلام. وعدت حزيناً إلى درجة «البلم» من المصحة إلى البيت. ولكن شعرت براحة، لأن أمّي ستكون في المصحة في حال أحسن، بدلاً من جلوسها وحيدة، في غرفة مظلمة لا تجد ما تأكله. ولكنني لا أنسى تلك النظرة التي «تكسر» القلب، تلك التي نظرتها إليّ من خلفها من وراء كتفها، وقد قادتها الممرضات إلى العنبر. وتذكرتُ أمّي، ومعاملتها المحبَّبة، ومرحها وبشاشتها وجاذبيتها، تذكرتها وهي تعبر الشوارع بحجمها الصغير، مرهقة مشغولة البال، وما إن تراني هرعت نحوها، حتى تتغيّر على الفور، لتصبح ابتسامة كاملة، وهي تراني أنظر بشوق إلى داخل «الكيس» الورقي، لأرى ماذا تحمل لنا من هدايا صغيرة. كانت دائماً تشتري لنا، أنا وسيدني، مثل تلك الهدايا الصغيرة. حتى في ذلك الصباح الذي فقدت فيه عقلها، كانت تحتفظ لي بهدية صغيرة، وهي قطعة من الحلوى، وقد قدمتها إليَّ عندما كنتُ أبكي في حجرها. كنت حزيناً فلم أستطع الذهاب إلى البيت مباشرة فغيَّرت اتجاهي إلى سوق «نيو ويننجتون باتس». وطفقت أنظر في واجهات الدّكاكين، حتى حانت نهاية العصر، ورجعت إلى غرفتنا. كانت فارغة بلا طعام، كان هناك «طشت» على كرسي، ملآن إلى نصفه، وبه قميص لي، وآخر لأمي. وبحثت في كل مكان، لم يكن هناك سوى علبة شاي نصف فارغة. وفي زاوية «التربيزة» كانت لا تزال هناك قطعة الحلوى، التي قدمتها لي في الصباح، فانهرت وبكيت مرة أخرى. وصرت أتجنب «آل مكارثي» لأني لا أريد أن أطلعهم على حال أمي. وتحاشيت كمتشرد كلّ من أعرف، ونقلت إليَّ مالكة البيت في اليوم التالي، أنّ أميّ قد نُقلت إلى مأوي «كاين هيل»، الذي يبعد أكثر من ثلاثين ميلاً. وبدأت أعيش وحدي في الغرفة. وأقمت علاقة مع حطَّابين من قاطعي الأخشاب، يعملون خلف «كيننجتون رود». بدأت أساعد في الأعمال الطفيفة. وبنهاية كل أسبوع يعطيني «المعلّم» ستة بنسات. كما كان يتيسر لي أحياناً تناول وجبة أو كوب شاي. كان قاطعو الأخشاب يعملون من السّابعة صباحاً حتى السّابعة مساء، وأحياناً أكثر. كانوا «شقيانين» محطَّمين، غير أنهم يفيضون ودّاً. كانوا في أربعينياتهم، لكنهم يبدون أكبر سِناً بكثير، وعندما يغادرون مكان العمل ويعودون إلى بيوتهم كنت أشعر بالحزن. كان «التهديد» بالمدرسة يطلّ في كل مرة خلال وجودي مع الخشابين، إذ أنهم يسألونني عنها. وكانوا يتضايقون من وجودي بينهم، بعد انتهاء العطلة المدرسية. فصرتُ أمكث حتى الرابعة والنصف بعد الظهر، ريثما تقفل أبواب المدارس، ثم آتي إليهم. كانت «نهارات» الوحدة طويلة مملَّة، في شوارع برّاقة غير آسية. وذات مساء سلّمتني «مالكة البيت» عند عودتي إلى الغرفة، رسالة تلغراف من «سيدني» تفيد بوصوله يوم غدٍ في محطة (ووترلو). ولم أكن في حال تسمح بمقابلته، فملابسي متّسخة وممزقة، وحذائي فاغر، و«تبطينة» برنيطتي تتدلَّى ك «قميص نص» نسائي من تحت فستان. ولم أحبّ أن أحمل «جردل» ماء فأصعد به إلي الطابق الثالث، مروراً بمطبخ مالكة البيت. فأخذت زينتي في الليل، في حنفية قاطعي الأخشاب، ولبست ملابسي إيّاها، وذهبت في تلك الهيئة، إلى محطة «ووترلو» لاستقبال «سيدني». وعندما رآني كانت أذناي ورقبتي بسبب «زينة الليل» تفتقر إلى النظافة، فسألني سيدني ماذا حدث؟