في مطلع التسعينيات والإنقاذ الوطني في أوج حماسها الثوري لتنزيل شعاراتها على الأرض ومن بينها محاربة الفساد أعلنت آنذاك عن تقديم محافظ القلابات علي عبد الله النحيلة للمحاكمة بتهم ذات صلة بالمال العام ثم نزعت الإنقاذ للصمت طويلاً عن كل أشكال التجاوزات المالية وراج إعمال مبدأ فقه السترة الذي أطَّر له القيادي بالإنقاذ علي الحاج محمد بمقولته الشهيرة لدى سؤاله عن أموال طريق الإنقاذ الغربي «خلوها مستورة» وصولاً للاعتماد على محاسبة قادة الحزب الحاكم من خلال المساءلة عبر قناة الحزب الداخلية جاء ذلك من خلال تصريحات كبار المسؤولين ومن بينهم رئيس المجلس الوطني أحمد إبراهيم الطاهر ورئيس لجنة الأمن والعلاقات الخارجية بالمجلس محمد الحسن الأمين وتصاعد الطرق على قضايا الفساد في الوسائط الإعلامية خاصة عقب انفصال الجنوب الذي خلَّف ضائقة اقتصادية واضحة دفعت للتساؤل عن أين ذهبت أموال النفط وزاد من وتيرة التداول بإلحاح اندلاع ثورات الربيع العربي التي أطاحت عددًا من الأنظمة التي استمرت لفترات طويلة تترواح بين العقدين والأربعة عقود. يُشار إلى أن توجيهات البشير المتكررة بخصوص محاكمة كل من تثبت عليه تهمة أو شبهة الفساد كانت عاملاً مؤثرًا في هذا الصدد رغم أن آلية مكافحة الفساد برئاسة الطيب أبو قناية الذي تولى زمامها في يناير «2011» إلى أن جرى إعفاؤه في يناير «2012» دون أن يحدث أي حراك يُذكر يقدح في قضية مكافحة الفساد إلا أن المؤشر العام للحساسية ضد الفساد قد ارتفع بعض الشيء فمن القضايا الكبيرة التي أُحيطت بسياج ضخم من الفساد هي قضية شركة الأقطان والتي كشفت عنها الزميلة «التيار» ليشير رئيس الجمهورية عمر البشير في الفترة نفسها من خلال الحوار الذي أجراه معه الإعلامي الطاهر حسن التوم إلى أنه عندما كشفت الصحافة عن تلك القضية كان المتهمون فيها قيد الاعتقال وتشعُّب قضية الأقطان دفع رئيس لجنة العمل والإدارة والمظالم الفاتح عز الدين للاعتراف بالتعقيدات التي تكتنف قضية الأقطان نظرًا لبروز عنصر تعاملات تجارية خارجية مع ثلاث دول وأطرافها في الداخل.. وتاليًا جرى الإعلان عن بيع خط هيثرو في مطار هيثرو الدولي الذي كانت تملكه الخطوط الجوية السودانية ومن ثم أعلنت وزراة النقل توليها التحقيق في القضية ورغم أنها أعلنت في مارس الماضي عن اكتمال التحقيق في القضية إلا أن نتيجته لم تُعلَن حتى الآن وفي المضمار نفسه تجري حاليًا محاكمة وزير الإرشاد السابق أزهري التجاني والأمين العام الأسبق للأوقاف مختار الطيب بتهمة تعديهم على المال العام وتبديد مبلغ «633» ألف ريال سعودي على خلفية شكوى مقدمة من هيئة الأوقاف الإسلامية ولعلها أول محاكمة يمثل فيها وزير إنقاذي وإن كان برتبة وزير سابق واللافت في هذه القضية أن وزير العدل السابق عبد الباسط سبدرات هو من تولى أمر الدفاع عنه في هذه القضية، وعلى مستوى القوات النظامية أخذت تطفو على السطح قضايا لمحاكمات لمنتسبي الشرطة على نحو لم يكن مألوفًا في السابق، ومن أحدث تلك القضايا الحكم بالإعدام على نظاميين بعد إدانتهما بالقتل العمد في قضية قتيل تمبول كما تجري محاكمة المتهمين في قضية «عوضية عجبنا» التي لقيت مصرعها جراء اشتباكات وقعت بين قوات من الشرطة وأفراد من منطقة الديم. وللنظر في مسألة مكافحة الفساد من الجانب الأمني هاتفت الصحيفة الخبير الأمني حسن بيومي الذي أشار إلى أن تقارير المراجع العام السنوية تكشف عن الاعتداءات التي تجري على المال العام سنويًا وفي هذه الحالة لا يستطيع النظام إلا أن يقدم المسؤولين المعنيين للمحاكمة منوهًا بمخاطر الفساد متى ما استفحل ليصبح ظاهرة باعتبار أنه يقوض أركان الدولة نظرًا لتأثيره الكبير في المجتمع الذي يعتريه بالإحباط وبالتالي من الصعب عليه الدفاع عن نظام يتفشى فيه الفساد، وخلص إلى أن أمن المجتمع جزء من أمن الدولة. وفي المقابل ذهب الكاتب الصحفي عبد الله آدم خاطر إلى أن قضايا الفساد من حيث المبدأ صارت أكبر من أن تدارى مشيرًا إلى ظهور أصوات ناهضة في المؤتمر الوطني والحكومة أخذت تدعو إلى ضرورة الاقتراب من القوى السياسية وأن هذا القصد لن يتم ما لم تأخذ الحكومة على عاتقها الاهتمام بالقضايا الكبرى وفي مقدمتها موضوع الفساد والاعتداء على المال العام الذي دأب المراجع العام على الكشف عنه سنويا منوهًا بالفرق الكبير بين الأمس واليوم في هذا الصدد حيث كانت أجهزة الحكومة سابقًا تجتمع للنظر في كيفية الحيلولة دون نشر القضايا المتعلقة بالفساد في الصحف السيارة وثمة عامل ثالث نوه به خاطر وهو العناية التي أولتها مؤسسة الرئاسة للالتفاف حول مفاهيم جديدة لدستور ما قبل الانتخابات القادمة، وهذا يتطلب من الحكومة أن تكون شفافة في الشؤون العامة لاسيما الفساد والسماح للوسائط الإعلامية خاصة الصحف بتناولها، ووصف تحركات الحكومة هذه بأنها خطوة في الاتجاه الصحيح وعبَّر عن رجائه في أن تمضي في هذا الاتجاه قدمًا للأمام.