هذه حلقات متتابعة لرواية تتكون من ثلاثة أجزاء «ثلاثية» أولها «التغريبة» يتلوها «مشلهت والضياع الكبير» ثم الجزء الأخير «مشلهت والضياع الأكبر». تتمدد هذه الرواية في مساحة زمنية كبيرة تبدأ من اليوم الأول لانقلاب الرئيس الأسبق جعفر نميري في صبيحة الخامس والعشرين من مايو «1969م» وتتواصل أحداثها إلى معتقل قوانتانمو في القاعدة الأمريكية في كوبا. تُنشر لأول مرة مكتملة بأجزائها الثلاثة في جريدة «الإنتباهة». ملخص الحلقات السابقة مشلهت كان يعمل وكيلاً لإحدى الوزارات الخدمية وهو وعدد من الناس اضطرتهم ظروف الحكم المايوي إلى مغادرة السودان وطلب الهجرة والعمل في الدول الخليجية في أكبر هجرة عرفها السودانيون وكان من بينهم الدكتور الزبير الأستاذ بكلية الهندسة الذي وصل معهم المملكة العربية السعودية إلا إنه جاءه خبر وفاة زوجته في حادث انفجار أنبوبة غاز مما اضطره للرجوع للسودان فاستعان بصديقه مشلهت ليدبِّر له أمر الرجوع للسودان. وجاء موضوع أخته سعدية التي أُصيبت بنزيف في المخ أحدث لها شللاً وتقرر نقلها للمملكة العربية السعودية لعلاجها. ولكنها توفيت قبل أن تصل مطار جدة. ابنها معاوية الذي كان في موسكو هو ومجموعته نصبوا على خاله مشلهت مما أدى إلى وفاة أمه سعدية وأصابت معاوية هلوسة جعلته ينتمي لمجموعة دينية منحرفة. الحلقة «32» السليماني له فيلق مدرَّب من الأطفال الكوماندوز والبلدوزر الذين رزقه الله بهم في بلاد الاغتراب وكغيره مثل بعض المغتربين كان يؤمن بفلسفة في تربية الأطفال تقول: يا أخ خليهم يعملوا زي ما يعملوا بعدين يكبروا يبطلوا الحاجات دى. ولكن السعية التي كان يرعاها السيد السليماني بمثل تلك الفلسفة كانت تكبر لا لكي تبطل ما كانت تفعل وانما لكي تتقن ما تفعله بصورة اكثر كفاءة. حمو يكسر «كبابي» الشاي واصبح اكثر كفاءة في تكسير التلفزيونات وحرق أجهزة التلفون وذلك بإدخال توصيلاتها في افياش الكهرباء. «وتوفه» الذي لا يعرف غير دفق العصير على السجاد والموكيت اصبح اختصاصياً في نزع أوراق الجدران... «ونعومة» الكبير الذي يفوق حجمه سنة بدلاً من التعلق بأستار الكعبة أصبح يتعلق بالستائر في أي بيت يزوره وما هي إلا دقائق معدودة حتى يُهبط كل ستائر البيت وتتكوم جثة هامدة هي والأعمدة التي تحملها. وإذا كان لا بد لنا من ذكر الإناث في تلك المعادلة فلا يفوتنا أن نذكر «نغنوشة» الصغيرة ذات الملامح البريئة التي لا تهوى إلا مغافلة الجميع وإدارة أزرار البوتاجاز ولولا تلك الرائحة النفاذة الى تتسرب من البوتاجاز فتنبه الجميع الى ان هناك تسرباً للغاز لمات الجميع من الاختناق... ولانفجر البيت عندما تهم صاحبته بعمل الشاي. وعليه فإن ذرية السليماني ليست كبيرة ثلاثة أولاد وبنت صغيرة تهوى البوتاجاز وأخونا السليماني من فرط إعجابه بذريته تلك تمنى لو أن بإمكانه أن يطبع منها نسخاً ويعمِّمها بالفاكس علي جميع احبابه المغتربين... ومن بين احبابه تذكر فجأة صديقه مشلهت ولهذا قرر أن يزوره بذلك الفريق من البولدوزر ويقضي معه ثلاثة أيام سُنة الضيافة اذ انه لا يريد ان يثقل عليه. * عاد مشلهت من دوام المساء وهو يصعد سلم العمارة الى شقته برشاقة، يحسد عليها... كأنه شعر بأن هناك حركة غير عادية مصدرها شقته.... اصوات عالية وصراخ «وبردبه» لم يعهدها من قبل... ولولا أنه لمح اسمه واضحاً على باب الشقة لتشكك أنه فى العنوان الصحيح. وبصعوبة بالغة تمكن من فتح باب الشقة لأن «نعومة» كان قد حول طربيزة كبيرة الى الباب وذلك لكى يفسح المجال داخل صالون لكى يلعب كرة القدم... ووسط هذه الضجة لمح صديقه السليماني وقد تمدد على الكنبة وقد اغفى كمن جاء من سفر بعيد... وفي الداخل كانت زوجته تشرح له ان السيد السليماني قد وصل هو وأولاده وانها حاولت ان تتصل به تلفونياً فى مكان العمل الا انه لم يكن موجوداً وانها قد جهزت العشاء وعليه فقط ان يحضر الرغيف، خرج مشلهت وعاد بعد مدة ومعه اكياس الرغيف... وانتظر الى ان صحا صديقه السليماني من تلك الغفوة.. ودخلا في برنامج السلامات والكلامات... واستطاع مشلهت ان يتبين بصعوبة وذلك بسبب الصراخ والاطفال الذين يقفزون هنا وهناك ان صديقه السليماني قد حصل على اجازة ثلاثة ايام نسبة للساعات الاضافية التى عملها وقد قرر ان يقضيها مع صديقه مشلهت بعد تلك المدة الطويلة التي لم يره فيها ولا سيما والسليماني لم يفقد الا «سوى عدم رؤية» صديقه مشلهت ومشاهدته المرضية. تصور يا مشلهت يومداك كنت عايز اكلمك فى موضوع ناس حاج الغالي بعدين... في هذه الاثناء جاء «حمو» صارخاً بابا... باب.. شوف نغنوشة دى... شختت لي الكبريتة فى قميصي.. وكانت نغنوشة تجرى من خلفه وهى تلوح بكبريتة خطفتها من المطبخ وتصر على اشعال النار فى قميص أخيها حمو.. ولكن السليماني لا يأبه لهذا الموضوع بل يقول لابنه. خلاص.... هي مش حتولع فيك النار ويواصل حديثه قائلاً: تصور موضوع ناس حاج الغالي... اصلو الحكاية.. ولكن مشلهت كان فى هذه الاثناء يحاول ان يدخل فى مساومة مع نغنوشة وذلك باعطائها ريالاًً مقابل الكبريتة... الا ان نغنوشة لا تتنازل بسهولة عن كبريتتها... وتتدخل زوجة السليماني وتحمل نغنوشة والكبريتة الى داخل حجرة النساء. اصلوا اخذت لى اجازة سريعة وقابلت حاج الغالي.. ويقطع حديثه لأن كرة لولبية ارسلها نعومة...استقرت على الطربيزة امامه فتطايرت الاكواب والمشروب الذى بداخلها وملأ ارجاء المكان. ومضى الحال هكذا... والسليماني لم يتقدم قيد انملة فى موضوع ناس الغالى... وذريته وقد استباحت شقة مشلهت عن آخرها... فلم يبق فيها شيء عمودى يقف عمودياً وكل الاشياء القابلة للكسر لم تخيب ظن الذين كتبوا عليها قابل للكسر فتهشمت وتناثرت كقطع الشطرنج... ولو كتب لك أن تزور شقة السيد مشلهت في ذلك اليوم لأيقنت أن إعصارًا أو تورنيدو قد طاف عليها فأصبحت كالصريم... والأمر العجيب في الموضوع أن أطفال مشلهت قد انزووا بعيداً في حين أن والدهم كان يعتبرهم من الأطفال الأشقياء وكان دائماً يصرخ فيهم مؤدباً ومتوعداً بالعقاب الرادع.. صحيح انه لم يضرب أيًا منهم في حضور الضيوف... ولكنهم اليوم تواروا بعد أن أحسوا إن مواهبهم لا ترقى لمواهب ذرية عمو السليماني. وفي هذه الأثناء كان السيد مشلهت يجامل صديقه السليماني وهو يحثه علي إكمال قصة ناس حاج الغالي ولكن المقاطعة المتكررة والتي تشبه مقاطعة إسرائيل لم تعطه مجالاً لاكمال قصة ناس حاج الغالي... فقال متسائلاً: يا خوى... أنا ما شايف وليداتك... وين هم الليلة ما ظهروا؟ ويجيب مشلهت... - موجودين... لكين طبعاً بكرة المدارس وكدا تعودوا ينوموا بدري... ويرد السليماني: هو نحنا زمان أبواتنا كانوا بنومونا بدري.. قول لي بالله كسبنا شنو؟ خلي الأولاد يتفتحوا... والله أنا أولادي وخاصة البت الصغيرة دى لو ما التلفزيون قفل وقال اش اش وسمعتوا بأضانها مابتنوم. ولكن الأمر الذي جعل السيد مشلهت لا يستطيع مغالبة النعاس ليس هو عدم نوم أولاد السليماني بل أمر آخر وقصة أخرى. في تلك الليلة كان ذهن مشلهت مشتتاً فى مليون مكان ولا يستطيع أن يركز مع صديقه السليماني الذي بدأ قصة من الساعة الرابعة مساء ولم يتقدم فيها اكثر من: ما كملت ليك الحكاية... اصلوا الحكاية أخونا حاج الغالي... وفي هذه الأثناء كانت تحدث هجمات اعتراضية من فيلق السليماني المدرب فيتوقف من الكلام ويحاول جاهداً ان يكمل قصة حاج الغالي الا أن مشلهت كان يقفز بين الفينة والأخرى ليحل إشكالاً نشأ بين نغنوشة وتوفة وكان السليماني يتدخل بتعليق قائلاً: هم أصلهم كدا... عشان نغنوشة طريدة توفة... يا أخي ما تشغل بالك بيهم وتعال اكمل ليك حكاية حاج الغالي... ولكن حكاية حاج الغالي لا يمكن أن تكتمل... فقد اتضح إن نغنوشة بجانب مواهبها في تسريب الغاز من البوتاجاز فهي متخصصة في فتح الشنط والحقائب وبعثرة محتوياتها... وهذه عادة داومت عليها بإصرار وبحرافة كبيرة فما من زوار جاءوهم في منزلهم الا واختطفت حقيبة المرأة الزائرة لتفتحها وتلقى نظرة فاحصة على ما بداخلها تبعثر محتوياتها... وسط موجة من الحرج تغطي وجه الزائرة. في هذه الليلة عثرت على حقيبة زوجة مشلهت وغاصت في أعماقها ثم عثرت على ظرف به أقراص منع الحمل وكأنما اكتشفت شيئاً مثيراً إذ أنها خرجت حاملة ذلك الظرف وهى تصيح: بابا... بابا... شوف ناس عمو مشلهت عندهم الحبوب زى بتاعة ماما... حتى كمان بالعين منهم أربعة حبوب. وبالرغم من أن الموقف كان محرجاً بالنسبة لمشلهت وضيفه الكبير إلا أن شعوراً بالارتياح كان يداعب ذهن مشلهت إذ انه حمد الله أن السليماني وزوجته لا يطلقان الحبل على عواهنه فزيادة نسل السليماني من ذلك النوع من الكماندوز لا يمكن أن تكون عواقبه حميدة فها هم الآن أربعة فقط يقومون بأعمال لا يقدر عليها «بلتون» مدرب فكيف يكون الحال إذا كانوا اكثر من ذلك. ولكن السليماني لم يشعر بأي نوع من الحرج إذ انه تناول تلك الأقراص من نغنوشة وتفحصها وقال: دى مش زي بتاعة أمك يا غبيانة... بتاعة أمك فيها خط اصفر ولا توافق نغنوشة على ذلك فتهجم على ظرف الأقراص وتخطفه من يد والدها وهى تصيح: والله... يا بابا... زى بتاعة ماما... حتى شوف هنا فيها الوردة دى... وتهرع الى الداخل وهى تحمل ظرف الأقراص لتريه لوالدتها مع زوجة مشلهت محتجة على ملاحظات والدها... بينما يصفر لون زوجة مشلهت من الحرج ولا تستطيع أن تقول شيئاً. في ذلك الوقت الذي كان فيه السيد مشلهت وضيفه يحاولان أن يحسما موضوع تلك الأقراص كان توفه يدبر أمرًا... فهو الآن لم يأت بشيء خارق للعادة.. فكل الذي فعله أن ضرب ابن مشلهت الصغير في عينه بريموت التلفزيون وقد أنكر انه كان يقصد ذلك وسط صياح وبكاء ابن مشلهت. آخر الكلام دُل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشترِ ولا تهدِ هديَّة مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع. وأغلقه أو اجعله صامتاً وأنت في المسجد.