كتب شارلي شابلن رمز الفنّ العبقريّ الجميل، قصة حياته في صورة اعترافات حزينة، في لحظات أعقبت إشراق شمسه، ونجاحه الأسطوري الساحق. وذلك لكي يضع رأسه في حجمه الطبيعي!. في حلقات متلاحقة سنقلب صفحات من حياة شابلن، ينبعث منها عطر شارلي، في الإمتاع والصراحة والعفوية والإنسانية العميقة، في تطوّر عبقريته وقضايا فنه، وصداقته آينشتاين ولقائه ماوتسي تونج، وتألقه المضيء، الذي انتهى بطرده من أمريكا!. هذه الحلقات التي تبرز علاقة شارلي بأمّه. كانت أمّ شابلن بالنسبة إليه، كالبسملة في حياة المسلم، فلا يبدأ حديثا إلاّ بها. كانت تتردّد في حياته، كما يتردّد الضوء في مصباح (النيون). ذكرياتي في صحراء الحزن عندما لزم جدِّي سرير المستشفى، كنا نزوره، ونجمع ما لديه من طعام (أكل المستشفى). ونذهب به إلى البيت. كان معظم الطعام الذي نجمعه عبارة عن (بيض). كنا نأكل البيض كطعام واحد لعدة أسابيع متوالية، ونصنعه في مختلف الأطباق، مسلوقاً أو مقدوحاً أو باللبن. كنت أشعر بالرهبة، عند مغادرتي المستشفى حاملاً البيض، برغم تأكيدات جدي أن الممرضات صديقاته. ولقد حزنت لليوم الذي أصبح فيه جدّي معافى وغادر المستشفى. وجاءت (مسز مكارثي)، وهي ممثلة آيرلندية صديقة لأمّي، تسكن في (كيننجتون رود). ولم نكن قد رأيناها مدة سبع سنوات، منذ أن تقاعدت أمّي عن التمثيل، وأصبحت صديقاً لابنها (وإلي مكارثي). واعتدت أن أقضي معه فترة ما بعد المدرسة، وأطيل البقاء حتى يحين موعد وجبة العشاء، التي عادة ما أُدعَى لتناولها. كانت لديَّ طرق (مقنعة)، مرضية جيّدة الإخراج، للظهور في الوقت المناسب للوجبات. وأحيانًا كانت لا تنجح مناوراتي فأرجع إلى البيت مكسوراً، حيث تلقاني أمي وهي سعيدة لرؤيتي، وتعدّ لي قطعة خبز محمرة ومرقاً، أو بيضة من بيض جدّى. كانت أمي تقرأ لي وأنا أستمع، ونحن نجلس معاً بجوار النافذة. وتسلّيني بتعليقاتها على المارّة في الطريق، وتبتكر قصصاً عنهم. فإذا كان المار شابّاً يمشي مسرعاً، قالت بأنه ذاهب للرِّهان في سباق الخيل، وإذا كان محظوظاً فسيشتري مركبة تجرَّها الخيول، يركبها هو وصديقته. وإذا كان رجلاً بطيئاً باد الحزن، قالت أمّي: هذا ذاهب إلى البيت، ليجد الطبق الذي يكرهه جداً مطبوخاً اليوم. وإذا رأت شخصاً مغروراً (متعنتظاً)، قالت: هذا سيكتشف الثقب في الجزء الخلفي لبنطلونه. وإذا مرَّ أحدهم في الطريق كالسّهم، قالت: هذا الجنتلمان، تناول لتوّه دواءً مسهِّلاً. وتنسج أمّي على ذلك المنوال قصصها المبتكرة، وأنا أغرق في الضحك. ونظراً لتأخُّر عودة (سيدني) من رحلته البحرية، أصبحت أمّي قلقة. فقد مرّت ستّة أسابيع ولم يظهر (سيدني). وعندما انصرم الأسبوع السابع على تاخُّره، كتبت أمّي خطاباً إلى شركة (دانا فان وكاسيل لاين). فُأُخطِرت بأنّه قد أُنزل في ميناء (الكاب)، حيث يتعالج من داء المفاصل. وزلزل ذلك الخير أمِّي. فأصبحت قلقة، وبدأت صحتها النفسية تتغيّر. ورغم أنّني كنت طفلاً صغيراً، لكنني بدأت ألحظ جلوسها لعدة أيام، بدون غرض محدّد جوار النافذة، وقد أهملت ترتيب الغرفة، وأصبحت هادئة بصورة غير عادية. وكان يمكنني أن ألحظ شرود (سرحان) أمَّي عندما اكتشفت شركة صنع القمصان أخطاء في خياطتها، وتوقفت عن التعامل معها، وعندما صودرت منها ماكينة الخياطة، بسبب عدم دفع الأقساط، وعندما توقّف مرتب الخمسة شلنات، الذي كنت أتقاضاه من دروس الرقص. كان يمكنني أن ألحظ أن برغم كل تلك الحوادث العاصفة، فقد كانت أمَّي تبدو وسط معمعتها، ذابلة غير مبالية، وتتلقّاها بشعور فاتر. وماتت (مسز مكارثي)، فخطرت على بالي فكرة جيدة وهي: ماذا لو تزوّج (مستر مكارثي) أمَّي، فذلك سيكون حلاً مثالياً لأزمته. وتناقشت مع أمي في ذلك الموضوع، فردّت بإبتسامة واهنة: دع وقتاً لهذا المسكين وقتاً ليتنفّس. فاقترحت لها أن ترتدي زيّاً جميلاً، وأن تلتقيه، بدلاً من الجلوس في هيئة بائسة في غرفة قذرة. وكم أنا متأسف على تلك الكلمات التي قلتها لأمّي. كنت أكّلمها عن الزواج، ولم أكن أدري أنّها تعاني من سوء التغذية. وفي اليوم التالي وبسبب ملاحظاتي، وبمجهود خارق فوق طاقة الإنسان، إستطاعت أمّي ترتيب الحجرة. وفي أحد أيام العطلة الصيفية، ذهبت إلى بيت (وإلي مكارثي)، هارباً من حزن غرفتنا الوحيدة، ودُعيت للغداء، ولكن صوتاً داخلياً في نفسي، طلب منّي الرجوع إلى أمّي في البيت. وعند وصولي بوابة البيت، أوقفني بعض أطفال الجيران، وقالت لي بنت صغيرة: لقد جنّت أمّك. وصفعتني كلماتها في وجهي. فقلت وأنا اغمغم: ماذا تقصدين؟ فقال طفل ثانٍ: هذا صحيح، فقد ظلت أمّك تدقّ أبواب الحي باباً باباً، وتوزع علينا قطعاً من الفحم، قائلة إنّها هدايا عيد ميلاد الأطفال، ويمكنك أن تسأل أمّي للتاكّد من صدق كلامي. وبدون أن أستمع إلى مزيد، هرعت على الفور إلى داخل البيت. وعدوت على الدرجات. وفتحت باب غرفتنا، وقفت لحظة لأستردّ أنفاسي، وأنا أتفحّص وجه أمِّي. كان الوقت ظهيرة في يوم صيفي، والطقس منقبض و(قاهر). وكانت أمّي تجلس كالعادة بجوار النافذة، والتفتت ببطء نحوي، تنظر إليَّ بوجه شاحب معذب هائج، فقلت لها وأكاد أن أصرخ: أمّي! قالت بلهجة فاترة ساهمة: (مَالَك)؟ فاندفعت جاثياً على ركبتي، ودفنت وجهي في حجرها، وانفجرت في بكاء لا يقاوم. فلاعبت رأسي بلطف وقالت: ماذا هناك؟ فأجبتها بين تنهداتي: أنت لست على ما يرام. فقالت: بالتأكيد أنا بخير. كانت تقول ذلك، وهي ساهمة مشغولة ضائعة جداً. فقلت: لا. لا. لقد قالوا إنك ذهبت إلى كلِّ البيوت، ولم أستطع إكمال بقية الجملة. وعندما عجزتُ عن إكمالها، واصلتُ البكاء في تشنّج، فقالت بصوت ضعيف: لقد كنتُ أبحث عن (سيدني)، لقد أخذوه بعيداً عنَّي وأخفوه. عندئذ عرفت أنّ ما قاله الأطفال كان صحيحاً.