لم يخن الرئيس سلفا كير عهده، أو يخفر ذمته، تجاه من رافقوه طويلاً في تلك الأحراش المأهولة بالضواري، فلقد قدحوا مع مُلهِمهُ قرنق زناد الثورة ضد الشمال المتجبر الذي تتعلق به كل شائبة، ويلحق به كل أذى، نعم صبر البهاليل السادة، والحماة الذادة، والكرام القادة، على الخطوب والمُلِمّات، فلم تصرعهم الشدائد، أو توهي عزيمتهم نوائب، ومضوا في نضالهم الدائب، يقرعون جيش عزة الجرار بالغدر والخسة، ويجتثون شأفة الخرطوم باللؤم والنذالة. انبثق فجر ذلك اليوم الذي قوض حصون الأمل في وحدةِ تغول عليها الباطل، وعبثت بها العصبية، وحدة مجّتها الحركة الشعبية، وسعت لوأدها وإيرادها حياض المنية، وخيراً فعلت، فالوحدة التي تقنع بالدون، وترضى بالهون، لن يزدهر لها جدب، أو يخضر لها مرعى، كما أنها لن تتماسك أمام صروف الدهر، وعنت الجور، فهنا إسرائيل التي يصدر عنها كل فساد، وهناك أمريكا التي ينبع منها كل شر. صبيحة ذلك اليوم رأينا أكداسًا هائلة من ضخام الصخر تعامت عن بؤس الفقير، وتصامت عن صوت الضمير، تحتفي بانفصال الجنوب الذي سوف تصفِّده بالأغلال، وتقيده بالسلاسل، بفرية دفعه إلى مراقي التطور، رأينا من لا يلحق به نظيرٌ في الحقد، أو يوجد له مماثل في العداوة، ينضد اللفظ، ويجوِّد المعنى، ويروِّض القافية، في أصحاب العطايا الجزلة، والمواهب السنية، سادته غلاظ الأكباد منجم كل باطل، وجرثومة كل ضلالة، أبصرنا القائد الأشم يطنب في شكر من استرقوه بفضلهم، وقيدوه بنعمائهم، حفدة القرود اليهود الذين أنعشوا زاوي الفتن، وجددوا بالي المصائب، أما الغرب الذي يقهر الشعوب المهيضة الجناح على القذى والضيم، ويروضها على الذل والاستكانة، فلقد رطبّ حاكم الدولة الوليدة التي لا تُغني فيها دمعة تذرف، أو كلمة تُقال، لسانه بشُكرهِ، وملأ فاهُ بحمدهِ، وأبان أنه معقد أمل للحيارى، وطوق نجاة لمن غمرهم الضيم، ومضهم الهوان، وأنّى لسلفا كير الا يُمعّن في الثناء على الغرب الذي مدّ له أكناف بره بعد أن استقرأ الدقائق، واستجلى الحقائق، وأماط اللثام عن مخازي الشمال الغاشم الذي وطئ خدهم، وأذلّ ناصيتهم. وبينما كان الطود الآنف يشنّف آذان الحاضرين بخطابة الغث المتداعي، جلس المشير البشير في سمته الرزين، يكفكف عبرات العين بالصبر، ويخفف حسرات الفؤاد بالرجاء، ففاجعة الانفصال تُدمي المُقل، وترمض الجوانح، كما أنّ ضياع شطر عزيز من البلاد سُفِكت من أجله دماء الشُرفاء خلّف حسرة في نفس شعب، ولوعة في سويداء وطن. كان خليقاً بسلفاكير أن يراعي في خطابه الذي نظمه على معانٍ سقيمة، وقوالب شوهها ضعنه الذي طوى عليه أخناء صدره، الكياسة والفطنة حتى تظل دولته التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة آمنة من كل غرث وجوع، ونابية عن كل جهل ومرض، ولكنه أفرط في البغضاء، وأسرف في قطع الوعود لشذاذ الآفاق، وشراد الأمصار، طواغي الغي، ورواد الفرقة، الذين لم يجدوا أوفى منه عهداً، ولا أمرّ عقداً، نعم لم يختر سلفا كير في ذمته، أو يخيس عن كلمته، فلقد زود عقار والحلو بالعدة والعتاد، ثم بعد كل هذا، لم يجد في نفسه مضّاً أو غضاضة من أن يأتي للسودان الذي يبغيه الغوائل، ويترصد به الدوائر، متسولاً طالباً القوت لشعبه الذي أودت به المجاعة، شعبه الذي اختار بمحض إرادته الانفصال عن كينونة الوطن الواحد آثرت ألوف منه البقاء في الشمال المستبد، هذه الألوف لم تفقه بعد كنه الاختلاف بين غابرها المجيد، وواقعها الجديد، فهُم الآن من غير معاظلة أو التواء أجانب لا يحق لهم نظم الحشود، أو حصب الجنود، لا لن نتوعد إخوتنا بالويل والثبور وعظائم الأمور، فهم «ضيوفنا» الذين لم نرغب قط في الانسلاخ عنهم، ولكن نعلن في أدب جم، أنّهم بتصرفاتهم الفجة، وأصواتهم الناشزة تلك، يرغمونا إرغاماً لطي أطمار المروءة التي تسربلنا بردائها منذ القرون الغابرة، ونرسلهم إلى وطنهم الذي صار مرتعاً للنوازل، بعد أن تردّى الضيف بثوب العقوق.