أصاب البعض القلق وعيل صبرهم وصرحوا بأن خريف هذا العام قد تأخر ثم فوجئوا بهطول أمطار غزيرة في معظم أرجاء القطر بدرجات متفاوتة وفي بعض الأحيان فإن معدلات الأمطار في بعض مناطق «السافل» والوسط تكون أكثر من معدلاتها في بعض مناطق الصعيد وقد حدثت متغيرات زمانية في موعد هطول الأمطار ومتغيرات مكانية أحياناً في معدلات هبوطها ولا ريب ان هذا هو محط اهتمام ودراسة المختصين على المستوى المحلي والعالمي من أهل الخبرات والعلم في الجغرافية المناخية والإرصاد الجوى وغيرهما من العلوم المرتبطة بهذا الشأن الحيوي الهام وكل شيء بقدرة الله سبحانه وتعالى والمشيئة الإلهية فوق التقديرات البشرية. وقد صحبت الأمطار الغزيرة سيول وفيضانات في مناطق كثيرة وفاضت أرواح مواطنين كثيرين تغمد الله سبحانه وتعالى بإذنه هؤلاء الشهداء بواسع رحمته. وتحطمت منازل كثيرة وهدمت أجزاء من بيوت أخرى ونفقت أنعام وفقدت أموال ودُمِّرت قرى وأحياء وشُردت أسر كثيرة أضحت تعيش في العراء وتعاني الأمرَّين في ظروف بالغة التعقيد. وإذا تعطلت عربة في زمهرير الشتاء القارس أو في ليلة ممطرة واضطر من فيها لقضاء ليلتهم في العراء بلا عشاء أو غطاء فإنهم يكابدون ويعانون الأمرين فما بالك بأسر كثيرة تعيش في العراء تحت وابل أو طل المطر «وقد توقع خبراء الإرصاد أن يمتد موسم الأمطار حتى نهاية سبتمبر» وان من أوجب واجبات القنوات الفضائية لا سيما القنوات الفضائية السودانية الرسمية أن تتجول ميدانياً وتعكس الأوضاع على الطبيعة في العاصمة والولايات ليقف الجميع في الداخل والخارج على حجم المأساة التي ألمت بهؤلاء المنكوبين. وإن أوضاعهم تحتاج لمعالجات اسعافية آنية عاجلة لا تحتمل أي تأخير أو ابطاء أو ثرثرة وكثرة كلام وتصريحات وعلى كل مواطن أن يستشعر واجبه ويساهم بقدر استطاعته ويتعامل مع ما يجري باعتباره هماً شخصياً يخصه والشعب السوداني بحمد الله يزخر بذوي الفضل والمروءة والنخوة والشهامة ويمكن لأي فرد أن يرسل مساهمته المادية من أي مدينة يقيم فيها أو يجاورها عبر أرقام الحسابات المصرفية المنشورة بوسائل الإعلام والمخصصة للتبرعات المادية، أما التبرعات العينية فيمكن جمعها في كل قرية ومنطقة وإرسالها للمنكوبين عبر الجمعيات التطوعية المختصة بهذا العمل النبيل. والمطلوب على جناح السرعة مد هؤلاء المنكوبين بالغذاء والدواء والخيم والمشمعات والملابس والنثريات..... الخ. وإن المعدن الأصيل لا يصدأ وقد كون عدد كبير من الشباب من تلقاء أنفسهم جمعيات كثيرة وشمروا عن سواعد الجد واخذوا يخوضون المياه ويعملون وأرجلهم ممتلئة بالطين ويجمعون التبرعات العينية والمادية ويوزعونها على المنكوبين وهم يعملون بهمة عالية وبلا ضجة وكاميرات مصاحبة وإن جميع الفئات من شباب وشيب ونساء ورجال أخذوا يساهمون وقد هب الخيرون منهم وهم كثر لأداء واجباتهم وقد وجهت قيادة القوات المسلحة الباسلة منسوبيها للعمل وسط المنكوبين والخوض معهم في الوحل والطين «وجيش واحد وشعب واحد» وكذلك فعلت كل القوات النظامية الأخرى. وإن للسودانيين تجارب كثيرة مشرقة وفي أوقات الأزمات «كالفيضانات والسيول والحرائق وغزو الجراد والآفات الزراعية» يصبح الفرد الواحد من أهل المروءة والهمة العالية كألف فرد. وأذكر بعض المواقف على سبيل المثال فقد كان الشاعر والناقد الأدبي حمزة الملك طمبل يعمل في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي نائباً للمأمور بمركز سودري واجتاح الجراد المنطقة قُبيل بدء الحصاد وكاد يفتك ويُنهي الموسم الزراعي وتصدى نائب المأمور حمزة كما ذكر الأستاذ حسن نجيلة في كتاب ذكرياتي في البادية وقاد حملة للقضاء على الجراد وتجول بحصانه بسرعة في قرى الكاجا بجبال السنابير في مركز سودري ببادية الكبابيش واستنفر المواطنين الذين هبُّوا جميعاً وعملو معه بهمة عالية واستطاعوا القضاء على الجراد وانقاذ الموسم الزراعي من الفشل. وفي الحلقة الأولى من سلسلة مقالاته بعنوان «خواطر مسافر في فراديس الحضارات» نشرها دكتور جعفر بخيت في منتصف سبعينيات القرن الماضي بصحيفة الصحافة ذكر في الحلقة الأولى أنه كان في منتصف خمسينيات القرن الماضي يعمل نائب مأمور بمدينة كتم بدارفور وهجم عليهم جراد صحراوي بأعداد كبيرة واستنفر جعفر بخيت كل المواطنين وقاد حملة لمحاربته وكان يعمل مثلهم كفرد منهم واستطاع هو وكل المواطنين القضاء عليه وإنقاذ الموسم الزراعي من الفشل. وفي عام 1956م عين السيد يوسف فضل حسن مساعد ضابط تنفيذي بمجلس ريفي أم روابة «وهو فيما بعد المؤرخ الشهير والإداري والأكاديمي المرموق البروفسير يوسف فضل حسن عميد المؤرخين السودانيين حالياً» وذات يوم في عام 1956م حدث حريق هائل وكان شكل الدخان يبدو كالجبال والتلال المرتفعة وأصدر الضابط التنفيذي أوامره لمساعده لإطفاء هذا الحريق وتوجه السيد يوسف فضل ومعه عدد من العمال ومكثوا أيامًا وأخذت مرتفعات الدخان تنخفض بالتدريج بفضل جهودهم وتمت محاصرة الحريق وإخماده تماماً ولولا ذلك لحدثت خسائر فادحة في الأنفس والأموال ومأساة يظل الجيل بعد الجيل يرويها. وقام اداريون شباب بأدوار مماثلة في سيول وفيضانات عام 1946م الشهيرة «وكل الذين قاموا بتلك الأدوار الوطنية الباسلة كانوا آنئذٍ في العشرينات من أعمارهم» ومن البشريات الطيبة أن شباباً كثيرين قد هبوا الآن من تلقاء أنفسهم ونذروها للقيام بأدوار باسلة مماثلة وينبغي أن يهبّ الجميع ليشاركوا بمساهماتهم العينية والمادية وجهودهم البدنية. وفي عام 1946م كادت جزيرة توتي أن تغرق وهب مواطنوها جميعاً بشبابهم وشيبهم وتصدوا للفيضان وأنقذوا جزيرتهم من الغرق ولذلك قال شاعرهم في قصيدته المشهورة التي يغنيها الفنان حمد الريح «عجبوني الليلة جو ترسوا البحر صددوه».وفي عام 1978م قبل خمسة وثلاثين عاماً اجتاحت السيول قرية شكيرة الوادي المجاورة لمدينة المحيريبا من الجهة الشرقية وهي تقع بشمال الجزيرة وفي ليلة واحدة هدمت السيول كل بيوتها المبنية من الطوب الأخضر والطوب الأحمر والمسلحة وهدمت كل متاجرها وحظائر مواشيها وفي الصباح وجد الجميع أنفسهم بلا منازل وكان الماء يحيط بهم من كل الجهات. وأكد معمر شارف عمره على المائة عام آنذاك أنه لم يشهد طوال حياته سيولاً كهذه ولم يسمع بها من أهله الكبار عندما كان صغيراً. وهذا يؤكد أن الذين يبنون مساكنهم في مجاري السيل والأودية معرضون لهدم منازلهم في أي لحظة. وقد صبر وصمد مواطنو شكيرة الوادي في تلك الظروف العصيبة وقابلوا قدر الله وقضائه بإيمان عميق وحدث تكافل في المنطقة كان مضرب الأمثال. وبعد انتهاء فصل الخريف وبالجهدين الشعبي والرسمي نقلت القرية لمقرها الجديد غرب موقعها القديم بعيداً عن الوادي ومجرى السيول وفي وقت قياسي وبقوة الشكيمة ومضاء العزيمة والهمة العالية والوحدة والتكاتف والتعاون قامت قرية نموذجية مخططة وفيها شوارع واسعة نظيفة وميادين فسيحة وقامت المؤسسات الخدمية وهي الآن من القرى النموذجية بمحافظة الحصاحيصا وولاية الجزيرة. وبعد جفاف الأرض وانتهاء فصل الخريف نأمل أن يتضافر الجهدان الرسمي والشعبي ليعاد بناء القرى والمنازل التي هدمتها ودمرتها السيول في مواقع جديدة بعيداً عن الأودية ومجاري السيول محتذين ومهتدين بتجربة قرية شكيرة الوادي النموذجية الرائدة. ولئلا تختلط الأوراق وتتداخل فإن الأهم في هذه المرحلة هو إيجاد معالجات إسعافية بدعم المجتمع والدولة وكل الخيرين للمنكوبين بدعمهم بالغذاء والكساء والدواء والغطاء والخيام والمشمعات والنثريات ما أمكن ذلك ليتجاوزوا هذه المرحلة ونأمل أن تبدأ المرحلة التالية بكل جدية بعد جفاف الأرض وانتهاء فصل الخريف لإعادة بناء ما تهدم من منازل وقرى في مناطق أخرى بعيداً عن مجاري السيول والوديان. ونأمل أن ينفذ مشايخنا الأجلاء أئمة المساجد في خطبهم لزبدة القول حاثين الجميع للمساهمة بتبرعاتهم العينية والمادية «والمشاركة بسواعدهم لمن تسمح لهم ظروفهم بذلك». والوقت ليس وقت مساءلة ومحاسبة ولكن هناك ثمة ملاحظة وهي أن اللجان الشعبية كانت في الماضي فاعلة ودورها مشكور غير منكور في الخدمات والنفير وربط النسيج الاجتماعي ولكنها بكل أسف حولت من لجان خدمية للجان للتعبئة في الانتخابات والهتافات وتجميع المواطنين في الاحتفالات والاستقبالات الحاشدة للمسؤولين ولذلك انصرف عنها الجميع ولا يتذكرونها إلا إذا أراد الفرد استخراج شهادة مواطنة وبنفس الطريقة احتضرت المجالس الريفية والبلدية وأصبحت كخيالات مآتة وتحولت لوحدات إدارية همها جمع الرسوم والجبايات. وبنفس الطريقة التي جرفت فيها السيول والفيضانات المنازل والقرى التي أصابها الضرر فإن السياسات الهوجاء العرجاء قد جرفت معها العمل الخدمي الشعبي والمجالس المحلية، أما المجالس التشريعية والرقابية الولائية والاتحادية فإن حالها يغني عن سؤالها ويكمن الحل في إقامة دولة مؤسسات حقيقية قوية من القاعدة للقمة.