موقفان متقابلان، موقف وزير الخارجية السيد علي كرتي الذي أعلن بوضوح لا لبس فيه قُبيل مغادرته لبروكسل أول من أمس، رفض السودان وعدم سماحه للمبعوث الأمريكي الجديد دونالد بوث بالتدخُّل في قضيَّة أبيي وأنه «غير مرحَّب به إذا كان يعتزم أن يكون وسيطاً في هذه القضيَّة وأنَّ واشنطون غير مؤهَّلة للحديث عن علاقة البلدين وأنَّها أي واشنطون تسعى لإفساد العلاقة بين الخرطوم وجوبا وأنَّه إن حاول طعن علاقات البلدين فلن يتم التعاون معه إطلاقاً.. وأنه لن يجد باباً من الجحيم على السودان إلا قضية أبيي». هذا ما قاله كرتي بعد أن اعتذر عن مقابلة المبعوث الأمريكي وألقمه كل هذه الحجارة وهو موقف مشرِّف لوزير الخارجية.. مقابل ذلك ولربما تكون قد وصلته الرسالة القويَّة وفهم معانيها وأبعادها، وحسب ما أفاد به الخير الفهيم المكي رئيس اللجنة الإشرافيَّة لأبيي من طرف السُّودان الصحفيين أمس، فإنَّ المبعوث دونالد بوث قال في تصريحات عقب لقائه الفهيم بعدم دعم بلاده إجراء أي استفتاء في قضيَّة أبيي من طرف واحد وشدَّد على ضرورة قيام المؤسَّسات المدنيَّة والتشريعيَّة بالمنطقة.. في حين قال المبعوث نفسه إنَّ قضيَّة أبيي شائكة وإنَّه جاء لتقويم وتفهُّم وضع قبيلة المسيرية ووجهة نظرها بجانب موقف الحكومة السودانيَّة.. واستفسر المبعوث عن موقف المسيريَّة من الاستفتاء.. ما يجعل حديث وزير الخارجيَّة الأقرب للصواب، أنَّ هناك نيَّة أمريكيَّة مبيَّتة تُضمر شراً في قضيَّة أبيي، ولولا مواقف واشنطون ودورها لما كانت هناك قضيَّة أبيي من الأساس، فقد أقحم المبعوث الأسبق للبيت الأبيض دانفورث خلال مفاوضات نيفاشا هذه القضيَّة في التفاوض من خلال طرح ما كان يُسمَّى بقضايا المناطق الثلاث، بعد أن حُسم أمر التفاوض وحُصر في الجنوب خلال تفاهمات مشاكوس التي سبقت نيفاشا.. ولكن استطاع دانفورث إقناع الوفد الحكومي يومئذٍ بقبول مناقشة وإدراج قضيَّة أبيي مع منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في المفاوضات وإفراد برتكول خاص بكل منطقة، ثم حدث تطور آخر خطير هو مقترح الأمريكيين في البروتكول بإنشاء مفوضيَّة لأبيي كان على رأسها السفير الأمريكي الأسبق الذي طُرد من الخرطوم منتصف التسعينيات روبرت بيترسون، وهي المفوضية التي تجاوزت تفويضها وسمَّمت الأجواء وعقَّدت الحل في أبيي في تقريرها الشهير الذي بموجبه تم اللجوء للتحكيم الدولي في لاهاي.. ظلت واشنطون على الخط باستمرار في تصعيد قضيَّة أبيي، وغني عن القول إن الجهات التي تنشط في تحريك قضية أبيي من مجموعات الضغط في أمريكا خاصَّة المجموعة التي تسمَّى «المجلس» وهي تضم سبعة أشخاص أبرزهم الأمريكي من أصل إثيوبي من الفلاشا تيد داقني وروجر ونتر المبعوث الأمريكي الأسبق للسُّودان وبريان داسليفا زميل الدراسة لجون قرنق في جامعة إيوا، وجون برندر قاست ود. فرانسيس دينق أحد أبناء أبيي ومجموعة أخرى.. ظلت هذه المجموعة هي التي تتحكم في مسارات العلاقة بين واشنطون والخرطوم وتقوم بأدوار كبيرة في تحديد اتجاهات الموقف الأمريكي وفاعليَّته، وليست بعيدة عن أي تحركات لمبعوثي البيت الأبيض للسودان وخاصة في هذه القضية المهمة، ويناصر هذه المجموعة أبناء أبيي من دينكا نقوك ويسعون بكل ما يستطيعون لإلحاق هذه المنطقة بدولة الجنوب مهما كلف الأمر وبهظ الثمن.. ولذلك على الحكومة أن تكون في خندقها الحازم والحاسم كما جاء على لسان وزير الخارجيَّة، وألّا تتساهل في هذه القضيَّة أو تُبدي أي مرونة تجاهها، فلا استفتاء في أكتوبر ولا يحزنون ولا لمقترح ثابو مبيكي الذي مرَّره له المبعوث الأمريكي السابق برينستون ليمان صاحب فكرة إجراء الاستفتاء بدون المسيريَّة ومنعهم من المشاركة في تحديد مصير منطقة أبيي.. إذا أبدت الحكومة موقفًا صارمًا وحاسمًا وقويًا فلن يستطيع هذا المبعوث الرئاسي الأمريكي ولا الإدارة الأمريكيَّة نفسها حشر أنفها في ملف أبيي..