سلسلة من الأحداث والتداعيات أحاطت بتاريخ السودان نجم عنها أن تشكل السودان بصورته الحالية. ففي العاشر من يوليو عام 1898 «قبل سقوط الخرطوم» وصل الميجور الفرنسي جان بابتست مارشان على رأس قوة مكونة من مئة وعشرين جندياً احتلت منطقة فاشودة في أعالي النيل «عرفت فيما بعد بأدوك» ورفعت العلم الفرنسي وأعلنتها مستعمرة فرنسية. ولكن في 18 سبتمبر من نفس العام وصلت قوة بريطانية بقيادة الجنرال هيربرت هورايشيو كتشنر وواجهت القوات الفرنسية. وكادت تندلع حرب بين بريطانياوفرنسا ولكن فرنسا آثرت الانسحاب في عملية باتت تعرف بمتلازمة فاشودة (Fashoda syndrome) . وكان ذلك في الثالث من نوفمبر 1898م. فلو أن فرنسا لم تسحب جيشها وأقامت مستعمرة في جنوب السودان لما كان جنوب السودان ضمن الحدود السودانية، وكان يمكن اعتباره مستعمرة فرنسية مثل جمهورية إفريقيا. ومن ناحية أخرى فعندما انهزم جيش الخليفة عبد الله خرج السلطان علي دينار وذهب إلى الفاشر وأقام سلطنة أجداده في دارفور بحدودها الحالية بعد أن خاض خمس حروب. وكان من الممكن أن يتبعه جيش كتشنر ويقضي عليه مثلما طارد الخليفة عبد الله وقضى عليه في أم دبيكرات. ولكنه لم يفعل لأن دارفور لا يعرف أحد حدودها، ولذلك تركوا السلطان علي دينار ليقيم فيها دولة واضحة المعالم والحدود حتى لا يدخلوا مع الفرنسيين في مشكلة أخرى، وهم قد توصلوا إلى صيغة تفاهم مع الفرنسيين عام 1899 عرفت باسم Entente Cordiale . ولذلك لم يضموا دارفور للسودان إلا عام 1917م بعد هزيمة ومقتل السلطان على دينار. ولو لم يفعلوا ذلك لظلت دارفور بعيدة عن السودان ولما كان للسودان تلك الحدود التي ظل يعرف بها. إذن كانت هناك ظروف استثنائية شكلت الحدود السياسية للسودان. والأمر كذلك ونحن نواجه حقائف أساسية تتعلق بالتنوع العرقي والتاريخي والجغرافي، يصبح من الضروري أن نحاول إيجاد صيغة لإدارة هذا التنوع Management of Diversity فمنذ إن نال السودان استقلاله ظلت المشكلات ذات الطبيعة الإثنية تظهر من وقت لآخر وهي تجر من خلفها مظهراً واضحاً وهو أن الأمة السودانية لم تتشكل بعد، وظل صراع الهوية يطرح نفسه في جميع الأنساق الحياتية. ومما عمق ذلك هو أن التقسيمات الإدارية التي خطها الإنجليز كانت على أسس قبلية مثل: دار حمر، دار مسيرية، دار هبانية، دار شايقية، دار جعليين ... إلخ. وقد اكتشفنا لتلك التقسيمات أثاراً مدمرة للاقتصاد السوداني خاصة في مجال الاستثمار. ودائماً تنشأ نزاعات مع المستثمرين «بأنكم قد تغولتم على أرضنا وأرض أجدادنا والحكومة ليس لها تراب هنا». وعندما تفجرت مشكلة دارفور وعانت البلد من ويلات حروب ونزاعات أهلية مستمرة، وكذلك عندما تفجرت مشكلة النيل الأزرق والشرق وجبال النوبة لجأت الحكومة لإدارة التنوع إلى الترضيات على حساب التراضي الذي هو إحدى ركائز الحكم الراشد. وكما قلت من قبل «الترضيات لا قاع لها» ولا يمكن ترضية كل الفرق المتناحرة المتشاكسة المشاكسة للوضع القائم بتخصيص مقاعد لها في اقتسام السلطة. فما هكذا تقتسم السلطة لأن الاقتسام لا يمكن الحاكم القائم من اختيار العناصر المؤهلة القادرة على تنفيذ برامج الحكومة، بل في أغلب الأحيان يأتي بعناصر تفرضها المعادلات الداخلية لأية جهة مشاركة. كما إنها لا ترضي سقوف التوقعات لتلك الجهات. وفي رأيي أن إدارة التنوع في بلد «ضخم كالفيل» لا تتم إلا بالاعتراف بخصائص ذلك التنوع وإتاحة الفرصة للأقاليم المختلفة لممارسة حكم ذاتي فاعل في إطار بلد موحد وحدة حقيقية. ولذلك نشأت عندي فكرة الولايات السودانية المتحدة بما فيها جنوب السودان، والفكرة ليست بدعة إنما هي تطوير للحكم الفدرالي القائم الآن. وقد يتهمني بعض الناس بإنني أسعى لتفتيت وحدة السودان وإن هذا مشروع تقف من خلفه جهات دولية استعمارية صهيونية. ولكن لو تمعنتم في حقيقة الأمر ستجدون أني أسعى «للملمة» ما تبقى من سودان، وأسعى إلى عودة الجنوب إلى وحدة جديدة على أسس جديدة ينعم فيها الجميع بحقوق دستورية متساوية. ملحوظة: الصورة المرفقة للجنرال مارشان.