خلال الفترة التي أُعلنت فيها سياسات رفع الدعم والإصلاح الاقتصادي حتى تمَّت إجازتها، لم تستمع الحكومة لكثير من الأصوات الناقدة وآراء الخبراء، حتى تلك الأصوات التي كانت تؤمن بأن الإصلاح الاقتصادي الذي تطرحه الحكومة لا غبار عليه، شريطة أن ينفَّذ حزمة كاملة غير منقوصة، وألا تطبِّق الحكومة هذه الإجراءات على المواطن ليتحملها وحده وينكوي بنارها ويتمرغ في جمرها اللاهب، وتنسى الحكومة أن تطبق ذلك على نفسها أو تبدأ بها... وصمَّت الحكومة آذانها عن أي صوت ينادي بضرورة التوازن والترافق في تطبيق الإجراءات الاقتصادية والمناداة بخفض الإنفاق الحكومي وإعادة هيكلة الاقتصاد وعدم تجزئة الحلول كما يحدث اليوم.. لكن شهد شاهد من أهل الحكومة، ففي ورشة ضمانات نجاح البرنامج الثلاثي باتحاد المصارف أول من أمس، تحدث الدكتور صابر محمد الحسن رئيس القطاع الاقتصادي بالمؤتمر الوطني، وحسن أحمد طه أمين الأمانة الاقتصادية بالحزب، عن الأخطاء التي صاحبت تطبيق البرنامج الثلاثي الاقتصادي، مع الاستمرار في تطبيقه، وقال صابر إن الدولة فشلت في تطبيق سياسة التقشف وخفض الإنفاق الحكومي مع ارتفاع في الأسعار وتحميل المواطن تبعات هذا البرنامج دون أن تتأثر الدولة به، خاصة عجزها عن مواصلة العمل في الإصلاح وصعوبة تنفيذ ما قطعته على نفسها وعدم تنفيذها ما عليها تنفيذه بدقة وبالطريقة المطلوبة.. ويُعتبر هذا الحديث هو الأول من نوعه يصدر عن شخصية اقتصادية مؤثرة ظلت في دائرة القرار الاقتصادي طوال سنوات الحكم منذ أكثر من عشرين عاماً، لكن الشجاعة كانت تقتضي أن تقال هذه الآراء حول معوِّقات تنفيذ البرنامج الثلاثي منذ إجازته قبل ثلاث سنوات وقبل الإجراءات الأخيرة، لأن هذه المعوقات كانت معلومة أصلاً لدى كل الناس، وجهرت شخصيات اقتصادية مرموقة بهذه الآراء من فترة ولم يلتفت إليها أحد، وغلبت الاعتبارات السياسية على كل شيء، وعندما بدأت ملامح الفشل وسوء التطبيق وعدم بلوغ المرام مما تم إقراره، بدأ التراجع والتطهر من هذه الأخطاء اليوم، وفي تقدير كثير من الناس أن حديث صابر أو حسن أحمد طه هو محاولة استباقية حتى لا يُفاجأ الناس بالثمرة المُرة التي وُلدت من هذا البرنامج وتطبيقاته غير الصحيحة. ولا يختلف اثنان ولا تنتطح عنزان، في أن ترشيد الصرف الحكومي ومنع تجنيب الأموال وولاية وزارة المالية على المال العام، وهيكلة الاقتصاد وتشجيع الإنتاج والاستثمار الخارجي وجذبه، هو المدخل الصحيح لعلاج علة الاقتصاد، وللأسف بدأت الحكومة بمعالجة منقوصة رفعت بموجبها الدعم عن المحروقات وتحمل المواطن السوداني في جلد وصبر لا حد له هذه الإجراءات، لكنه لم يرَ الحكومة في المقابل تقاسمه قسوة هذه الإجراءات وتنتبه لما يليها من واجب ومسؤولية.. حتى سياسة رفع الدعم، كانت في الأساس هدفها توزيع الدعم على الشرائح والفئات التي تستحقه، ولا يبدو أن هناك مؤشرات حقيقية أن الدعم الذي يُعاد توزيعه قد استفادت منه القطاعات الفقيرة والشرائح الضعيفة ولم ينعكس في توفير الخدمات والاحتياجات الرئيسة والضرورية.. والسبب عدم تناسق السياسات وانعدام التنسيق بين مكوِّنات البرنامج الذي تنفذه وزارة المالية مع السياسات الكلية للدولة وتنافر مكونات البرنامج الثلاثي نفسه عند تطبيقه.. من حديث صابر وحسن أحمد طه والنقد الظاهر والمبطن لكيفية تطبيق هذا البرنامج والمخاوف التي بدأت تساور اقتصاديين كثرًا ومنهم عبد الرحيم حمدي الذي تحدث مؤخراً في ذات الاتجاه، يجب على الدولة أن تفكر في أكثر من اتجاه من خلال المؤتمر الاقتصادي المرتقب أو وسائل أخرى لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي يبدو أنها لم تُحل ولن تُحل بهذه الكيفيَّة... لو واجهت الحكومة منذ البداية الحقيقة كما هي، وتصالحت مع نفسها والآراء الأخرى المخالفة لسياساتها الاقتصادية واستمعت لمن هم خارج حلبتها ووسَّعت دائرة المشاورة والرأي، لما احتاجت لمراجعات تبحث عن ضمانات نجاح... الله يستر!