لن يستطيع أي حاكم في أي بلد محاربة الفساد إلا إذا توفرت له إرادة سياسية، فالحكومة التي تحظى أجهزتها المعنية بقدر كبير من الاستقلالية والإرادة السياسية هي وحدها التي تلجم خيل الفساد، وأي بلد يستشري فيه هذا السرطان القاتل بالدرجة التي تُزكم الأنوف إلا وتبيّن في الحال أن البلد المعني لا يملك الإرادة السياسية لمحاربة الفساد... القوانين وحدها مهما تكن رادعة لن تستطيع محاربة الفساد ومهما أوتيت من قوة لن تجرؤ على أن تهز شعرة في «رأس» الفساد طالما أن الإرادة السياسية غائبة أو قد تم تطويعها فأصبحت أثرًا بعد عين، فالحكومة التي تعلن للملأ أنها تريد محاربة الفساد بكل أشكاله من استغلال نفوذ وسلطة وعمولات ورشاوي ومحسوبية وثراء حرام ونهب للمال العام لا بد أن تسأل نفسها: هل تملك إرادة سياسية لتنفيذ قوانين حماية المال العام؟! هل تستطيع أن تُعمل مبدأ من أين لك هذا في مواجهة شقيق وزير يستغل النفوذ السياسي والسلطوي لشقيقه؟ وهل تستطيع أن تُجري تحقيقًا شفافًا مع ابن الوزير الذي يُضبط متلبسًا؟ وهل تجرؤ الأجهزة المعنية على تطبيق القوانين التي تحمي المال العام وتعزز مبدأ العدل بين الناس أن تفعل ما تفعله مع المواطن الذي لا يملك حصانة لحماية «فساده» عندما يقع في مصيدتها أو أي «آخر» ليس له من ذوي القربى ما يمكن أن يحقنه بأمصال الوقاية من المساءلة ويقيه من قسوة القوانين «الرادعة» حينما لا تجد ما يُبطل مفعولها... في غياب الإرادة السياسية تصبح القوانين مجرد كتب تُزيَّن بها المكتبات ولا وجود لأثرها إلا في قاعة الدراسة بكليات القانون.. الفساد ظاهرة يرى نتائجها كل الناس ويسمعون عنها كثيرًا وهي تُثبت نفسها ولا تحتاج إلى إثبات إلا في قاعات المحاكم حيث تتوالد الثغرات وتُدرأ الحدود بالشبهات.. لكن هل نحتاج لإثبات فساد موظف صغير لا يتعدى راتبه «700» جنيه حينما نراه وقد امتلك عددًا من القطع السكنية والعقارات وامتطى فاره السيارات وأصبح رقمًا لا يمكن تجاوزه في دنيا المال؟ أم أننا بحاجة لإثبات الثراء الفاحش والسريع للمئات من أبناء الفقراء والمعدمين الذين «مستهم» نفحة من مدد وبركات «الحكم الإسلامي». أعجب والله أن أسمع بعض المسؤولين يتبارون في سوح التبريرات وتشجيع مثل هذه الظواهر «المُبيّنة» بالعمارات الشواهق والفلل الفخيمة والاستثمارات الضخمة بالقول التعجيزي المكرور: «العندو دليل على فساد يجيبو».. من أين للمواطن الغلبان أن يأتي بدليل؟ وهل هذه «التماسيح» و«الحيتان» تترك دليلاً على توريطهم؟ مالكم كيف تحكمون... هذا حديث تعجيزي فيه شبهة تواطؤ، ولكن الدليل هو تطاول الفقراء والمساكين في البنيان واللعب ب «القروش» على النحو الذي نرى وقد أصبح حديث الناس في المجالس.. إن مبدأ «من أين لك هذا» مبدأ أصيل في المحاسبة وحماية مال المسلمين والمرجعية في ذلك ما فعله الخليفة الراشد عمر بن الخطاب مع شبهة استغلال النفوذ والسلطة في قصة إبل ولده عبدالله، وشبهة «ثراء» أبو هريرة، والأمثلة كثيرة في الإسلام... يا حليل الإسلام.