كغيري من البشر تلازمني وتحوم حولي ظروف اجتماعية، وأعايش واقع معاناة ربما يخف حجمها عندي للخصوصيات التي تربطني مع بعض الدكاترة «أهل الرأي والعلم»، ومنذ زمن بعيد كان ذهاب أحد أبناء العائلة أو الحي أو حتى القبيلة الى مقابلة الطبيب أمراً يطول فيه الشرح من حيث التجهيز والإعداد وإذاعة الخبر ومواساة المريض الذي تبعه عدد كبير من المرافقين لمعاودة الطبيب، خاصة إن كان المريض من قرية نائية تبعد عن مركز العاصمة، فتجهز الدابة ويتجمهر ناس الحلة خاصة فى لحظة خروج المريض، وكأنهم يودعونه لمثواه الأخير، وقد يكون منظر البكسي الكاشف أو اللوري ومفروشة فيه المرتبة لراحة المريض تعد باتقان وترتيب رائع، وما أن يصل الوفد المرافق بمريضهم إلى عيادة الطبيب حتى تتزاحم بهم المصالى وكراسي الانتظار، وإن كثرت أو قلت، فكانت بحق معاناة يطول فيها الانتظار والترحال لعدة اسباب، اهمها ندرة الأطباء وقلة العيادات وصعوبة الوصول بوسائل المواصلات المختلفة، أما الآن فما نعانيه من واقع شكله مختلف تماماً، فالأطباء أعدادهم تتزايد والعيادات تتدلى لوحاتها فى كل الشوارع والأحياء، ووسائل الحركة أصبحت ميسرة لحد كبير، ولكن للأسف تجيء المعاناة فى شيء آخر ومن طرف نعتقد أن الحرص واجب عليه في تخفيف الألم، وهي ساعات الانتظار غير المبرر وعدم الالتزام بمواعيد الحضور لمقابلة المرضى!! فأنا كنت شاهداً رغم خصوصية علاقتي بذلك الطبيب على ساعات ملل وترقب بالانتظار لأكثر من «35» مريضاً تدافعوا إلى عيادته المميزة بتخصصه النادر، وحتى الموظف الذي يسجل وينظم دخول المرضى حضر للعيادة متأخراً وتعامل مع الموجودين بتعالٍ وعنجهية، وكأنه يشارك ذلك الطبيب كل تخصصاته، وقد يزيد بما كان فيه من عنطزة ونرفزة وتعامل غير كريم للموجودين الذين أعلم تماماً ان من بينهم المهندس والعالم وحتى الطبيب الذى يختلف عن المنتظر إلا فى تخصصه فقط، فظللنا نطالع الساعات ونتململ في الجلوس الذى تفقد حقك فيه بمجرد نهوضك لتنشيط الدورة الدموية، فينتهز غيرك فرصة قيامك ليحتل المقعد بانتصار وفرح غامر، وما عليك إلا أن تتجول مجيئاً وذهاباً فى انتظار فرصة للجلوس.. المهم لم اصدق نفسى وأنا أنظر لساعتى لأجد انها قاربت التاسعة والنصف مساءً وأننا وصلنا لعيادة ذلك الطبيب منذ السادسة!! ويا لها من معاناة رأيتها فى عيون المرهقين وحتى المرافقين أمثالي، فمعظمهم أتى مرافقاً من مكان عمله مباشرة، وبالتالى يكون قد واصل الدوام من ذلك الفجر الذي غادر فيه داره.. وصل بى الاستياء والقلق لدرجة كبيرة، وحسمت أمرى بحكم صلة الصداقة بينى وبين ذلك الطبيب واتصلت به، وبعد السلام والتحية أفادني بأنه كان في رفع فراش أحد اقربائه وغشى صاحبه فلان الجاي من الحج وهو الآن فى الطريق!! وانتظرنا ولم يصل لأكثر من نصف ساعة، واتصلت مره أخرى به لأجد هاتفه مشغولاً هذه المرة طويلاً حتى قررت الاعتذار لمن صحبتهم مجاملاً ومغادرة العيادة متحججا بعذر خاص. وما أن خرجت من باب ذلك المجمع الطبي الشهير حتى لمحت سيارة صديقى الدكتور المميزة، وتسسلت خلفه حتى لا أجرح علاقة صدقتي به، وانتظرت خارج السيارة حتى يكمل مكالمته الهاتفية بارتياح، لأن وقوفك بقلق أمام المتحدث بالهاتف قد يفسد عليه فكرة المحادثة ويطير الكلام من ذهنه.. وما أن رآنى حتى أنهى المكالمة بسرعة وترجل عن سيارته نحوى معتذراً وبكل بساطة قال: «ده صاحبنا أحمد عنده مشكلة مع زوجته بناقشنى فيها».. تخيل أن أكثر من ثلاثين مريضاً وثلاثين روحاً مرافقة للمريض فى رحمة رفع فراش ومباركة حجة وكلام تلفون وما خفي كان أعظم!! فلماذا أيها الأطباء الشرفاء حاملو تلك الرسالة الإنسانية.. لماذا لا تقدرون تلك المعاناة ولماذا لا تلتزمون بمواعيد محددة لمقابلة مرضاكم؟ وأنتم تتقاضون نظير ذلك أجراً يزيد المعاناة ويرهق الجيوب.. ولا غضاضة لنا فى ذلك، فكل زيادة أصبحت مقرونة بتلك المتغيرات الاقتصادية، ولكن نتعشم أن يجد المريض مقابل ما يدفعه الراحة التامة فى المكان والزمان المحدد له.. ولعل تجربة كل الدول الاخرى عدا السودان تجربة ناجحة ومرتبة، ففى الأردن ومصر يحدد لك زمن مقابلة الطبيب بالدقيقة وتلزم بالحضور في زمنك بالضبط تفادياً للانتظار وتسهيلاً للمرضى، والطبيب يستحيل أن يتأخر عن الحضور لعيادته مهما كانت الظروف. وفي العام السابق رافقت والدتي «أطال الله عمرها» لرحلة علاج بالقاهرة، وحدد لنا موعد مع الطبيب، وما أن دخلنا على عيادته حتى شعرنا بأن هناك حركة غير طبيعية، وعند سؤالنا علمنا أن والدة زوجة الطبيب التى تشاركة العمل قد توفيت قبل قليل.. هل تصدق أن ذلك الطبيب انتظر دخولنا له وكشف على الوالدة بسرعة واعتذر وحدد لنا فرصة أخرى بدون رسوم لمزيدٍ من التحليل والتأكيد، فأين نحن وأين أنتم من هذا؟ نعم هناك بعض الأطباء فى بلادي يقدرون ويحترمون مرضاهم ومواعيدهم، ولكن ما ذكرته أمر واقع يعانيه كثير من أمثالي. اضف الى ذلك أن كثيراً من تلك العيادات غير مجهزة ومؤهلة للانتظار الطويل، وقد يحتاج المرضى ومرافقوهم لكثير من سبل الراحة في قضاء الحاجة أو الصلاة او حتى مياه الشرب العادية، فنجد أن معظم تلك العيادات تضيق مساحاتها ويتزاحم فيها المرضى بأعداد خرافية، وتجد البناية التى لا تزيد مساحتها عن «300» متر بها أكثر من «20» لافتة لعشرين طبيباً يتشاركون جميعهم فى حمام واحد !! فلماذا لا تلزم الجهات ذات الاختصاص كل الأطباء بمعايير وضوابط محددة لمنحهم التصديق بفتح عيادة من حيث المساحة والتأهيل؟ ولو قدر لتلك الجهات مراجعة تراخيص تلك العيادات بالضوابط التى نرجوها لن تجد ما يستحق الموافقة على منح التصديق غير 5% من جملة الموجود، بالرغم من أن دخل الطبيب المتوسط فى اليوم لا يقل عن ألفي جنيه لو قدر أنه قابل «15» مريضاً فقط، وأتمنى أن يراجع هؤلاء الأطباء الذين أعنيهم بحديثى هذا طريقة تعاملهم مع مرضاهم، وأن يحرصوا على الحضور في الزمان المعروف الذي عادة ما يكون بين السابعة والعاشرة، وهو وقت مناسب للمريض والطبيب، ولا أجد أن هناك اى داعٍ لأن «يلطع» الطبيب مرضاه بالانتظار متعللاً بمشغوليات اجتماعية غير مبررة في تأخيره، وحتى إن حاول مقابلتهم في الساعات الأولى من فجر اليوم التالي، فمنهم من يشق عليه الانتظار لعامل السن، ومنهم من تبعد مساكنهم عن مركز العيادات، ومنهم من لا يجد حتى الوسيلة الميسرة فى العودة لدارهم.. فسهلوا على المرضى بالحرص على الحضور، ولا تنسوا أن من بينهم الأم والأخت والعم والخال، واختاروا من ينوب عنكم في استقبال المرضى، وتخيروا فيهم البشوش الصبوح المتساهل.. ولا تمنحوهم صلاحيات أكثر مما ينبغي، فبعضهم يترجمها خطأ.. راجعوهم في طريقة تعاملهم مع المرضى، واجعلوهم رسل رحمة يسهلون لمن قصد بابكم، فإنه آتٍ لكم للتداوي والبحث عن الراحة والشفاء، ولم يأتي لكم لعكس ذلك، وأتمنى ألا يتكرر سؤالنا: «الدكتور وصل ولا لسه.. قريب ولا بعيد؟» ولا يفوتني أن أحيي بعض الأطباء الذين يحترمون تلك الظروف والأزمنة، وأشيد ببعض المستشفيات الحديثة التي تتبع نفس النظام الحضاري الذي نسعى له ليعم كل مرضى بلادي دون تمييز أو استثناء.. فالمرض واحد والمعاناة واحدة والإحساس بقلق الانتظار إحساس مرير نشعر به جميعاً.. اريحوهم لتختفي جملة «الدكتور قادم في الطريق» .