لعبت الصحافة السودانية دورها التبصيري في كشف الأضواء وما تخبئه السياسة داخلياً وخارجياً، وحملت لواء الدعوة إلى التعاضد والتماسك ونبذ العنصرية والقبلية من أجل أن يتحرر الوطن وينال حريته. كانت الأقلام المشبعة بالحرية والوطنية المغموسة في أحبار تراب الوطن، والتي تحمل وصية الجدود والشهداء بالحفاظ على التراب الغالي وعلى الهوية وألا تسقط راية الجهاد.. كانت على قدر تحمل المسؤولية فقد ساهمت في حركة الوعي والتبصير وصناعة تاريخ الوطن دون من مع اختلاف انتماءاتهم.. كانوا قادة الرأي ليس للسودان فحسب بل لإفريقيا وعالمنا العربي والإسلامي.. مقالات تحمل جذوات النضال، وتقابة القرآن، ودماء الشهداء المتوهجة مع أشعة الشمس نهاراً، وضوء القمر ليلاً. كان من بين هؤلاء الأفذاذ هرم الصحافة السودانية إسماعيل العتباني الذي ارتبطت صحيفته «الرأي العام» بالجمهور، واشتهرت بالمصداقية واتخذت نهجاً وطنياً وخطاً يدعو إلى استقلال البلاد. يسرنا في صحيفة «الإنتباهة» أن نزيل ستائر النسيان ونعيد قراءة التاريخ ونفتح سجلاته الزاهيات، ونقدم لجيل اليوم عظمة ومعنى الوفاء والحب للوطن العزيز، حتى لا ننسى عطاء الرجال ومواقفهم، وحتى لا يطويهم الزمان بالنسيان في زمن الغفلة والنكران. كانت التطورات السياسية في يناير 1955م بين مؤيد للاتحاد مع مصر وتيار ينادي بالاستقلال، والمواقف التي أضحت تسيطر تماماً على الحكومة المصرية في أهمية ضرورة الاتحاد مع السودان، خاصة بعد تطور الحملات المركزة التي قادتها الصحافة المصرية، وتدخل حكوماتها في مجريات السياسة السودانية وإصدارها أمراً إلى سفاراتها ومفوضياتها بمنح السودانيين جوازات سفر مصر، وهو أمر يسلب حكومة السودان حقها في ممارسة سياستها، وبعد أن اتضح بجلاء الخطط والدعاوى والسياسات التي أضحى ينتهجها مهندس السياسة المصرية صلاح سالم من أجل تحقيق الوحدة عنوة، وجه هرم الصحافة السودانية رسالته إلى جمال عبد الناصر، وهي من أهم وثائق تاريخنا الحديث ولها آثارها وأبعادها في مسار الحركة الوطنية السودانية والعلاقات المصرية، فقد كانت تحمل إرادة الشعب في تحقيق حريته.. للأجيال وللذكرى المنسية نثبت الرسالة. «يا سيادة الرئيس نتوجه إليك بحديث صادق مخلص، ونؤكد لك تأكيداً جازماً أننا نعكس إليك في هذا الحديث مشاعر هذا الشعب وما يدور في ذهنه من أفكار غير مدفوعين إلا بدافع الإخلاص المحض للسودان ومصر، ونضع بين يديك في هذا المقال الحقائق الصريحة مجردة من كل زيف أو تضليل. أولاً: إن دعوة الاستقلال قد تمكنت من قلوب السودانيين تمكناً لا سبيل إلى زحزحتهم عنها مهما بذل من إغراء أو اتخذ من ألوان الوعيد، ولا تصدق من يتحدث إليك بغيرها، ومن يقول لك إن الشعب السوداني يدين بفكرة وحدة وادي النيل أو الاتحاد أو ما يشبه ذلك، فمثل هذه الأفكار لم يعد لها وجود في ذهن الشعب ولا عند الأكثرية الساحقة من الذين يقودونه في إخلاص وصدق من أبنائه، وليس في هذا الاتجاه كما يريد أن يصور لك بعض المغرضين تنكر لمصر أو تحول من الاتجاه إليها والاستفادة منها في بناء هذا السودان المستقل. ثانياً: إن جميع السودانيين يذكرون بالخير دور مصر العظيم الذي أدته، وخاصة في عهد الثورة الذي كان لحسن السياسة التي انتهجتها في معالجة قضية السودان والتحلل من اشتراط إقرار وحدة وادي النيل قبل أية مفاوضات لحل قضية السودان والوقوف عند المطلب الطبيعي لكل الشعوب وهو حق تقرير المصير، وكان لهذا الموقف وما تلاه من عمل عظيم من حكومة الثورة الأثر المباشر لما وصل إليه السودان من حرية، ومن المحال أن ينسى السودان لمصر ما أدته في سبيله، ومن المحال أيضاً أن تقوم حكومة في السودان مهما غالت في مظاهر استقلالها بدون أن تلتفت إلى مصر كجار قوي عظيم لا بد من التعاون معه. وقد تتساءلون يا سيادة الرئيس لماذا تطلبون الاستقلال عنا وتتخلون عن الاتحاد؟ قد يكون من السهل أن نرد بكثير من الأسباب الظاهرة، ولكن نقدم حقيقة نفسانية مهمة، أننا شعب ظللنا ستين عاماً نحكم حكماً أجنبياً مباشراً سلبنا جميع مقومات العزة والكرامة، وحجر علينا أن نمارس حقنا في حكم أنفسنا وإدارة شؤوننا، حتى يقيض الله له أخيراً أن يخرج عنا ويترك لنا بلادنا، فالحرمان الذي ظللنا نعانيه طوال فترة الاستعمار يجعلنا نحرص على أن نسترد سيادتنا كاملة، نريد أن نشعر فعلاً أننا صرنا أحراراً في بلادنا، وأننا نتصرف فيها كما نشاء، ونريد ذلك بدون إملاء أو توجيه أو إرشاد. إننا أشبه بذلك القاصر المحجور عليه أن يتصرف في حر ماله، فلما بلغ أشده واستطاع بعد كفاح وجهاد أن يسترد حقه، قيل له لا بد لك من شريك، يرعى تصرفاتك ويحسن استغلال مالك، قد يكون في ذلك شيء من النفع حقاً، لكنه يريد أولاً وقبل كل شيء أن يشعر بأنه المالك الفعلي، وأنه حر التصرف حتى إذا ما تم له ذلك، فقد يفكر بعد ذلك في من يعاونه أو يبادله المنفعة. وهكذا نحن نريد أن نتحرر أولاً حرية كاملة غير منقوصة، ونشعر بأننا دولة كاملة السيادة برئيس جمهوريتها وبعلمها وجيشها وعملتها وجميع مقومات الدولة الكاملة السيادة، فإذا ما تم لنا ذلك فإن الخطوة الطبيعية أن نتعاون مع مصر. ثالثاً: سيكون السودان ومصر في وضعهما القوي الجديد وفي تعاونهما كندين قويين متحالفين، قوة بعيدة الأثر في محيط السياسة في إفريقيا وفي الشرق الأوسط، بل وفي السياسة العالمية، ونحن نعلم أنه لم يؤذكم اطلاقاً أن يتحرر السودان، ولا نريد أن نصدق إطلاقاً أن جمال عبد الناصر يقرُّ هذا العبث الذي يقوم به بعض المرتزقة الذين يرشوهم صلاح سالم ليقوموا ببعض الألاعيب الصبيانية المكشوفة لمحاربة الاتجاه الذي يسير عليه الحزب الوطني وهو استقلال السودان، والذين ينادون بهذا لم يكونوا يوماً ما أعداءً لمصر ولن يكونوا، كما لا يمكن أن يقدموا على أمر إلا ويستوحون فيه مشاعر مواطنيهم ويتأكدون من أنه يمثل رغباتهم الحقة، ومن الخير لمصر ومن مصلحتها الحقة أن تعمل على احترام رغبات الشعب السوداني إذا صدرت هذه الرغبات من أصدقائها الذين يريدون لها الخير بمثل ما يريدون لبلادهم. نريدك يا سيادة الرئيس أن تأمر بإيقاف هذه الحركات المريبة والتآمر الذي يعبث به صلاح سالم في الشمال والجنوب، وأن تكون مصر كما عودتنا الصديق الذي يعمل لخير السودان ومعاونته للنهوض والتحرر، نريدك أن تشعر أن يد مصر البرة تدفعنا دائماً للأمام ولا تكيد لنا وتوقع بيننا لتفرض علينا رغباتها عن طريق إشاعة الفرقة والانقسام بين الشمال والجنوب، أو ببذل الأموال على بعض ضعاف النفوس، وإنا لنسألك وأنت الرجل الحر أي خير في فكرة تشترى بالمال وتجند لها المؤامرات، دعونا نمتلك أرضنا، ونشعر بأننا أحرار ولنا دولة كاملة السيادة مثل غيرنا، وثقوا تماماً أنكم تكسبون السودان الحر المستقل بوصفه صديقاً قوياً يقف بجانب مصر مؤازراً ومسانداً لحاجته إليها وحاجتها إليه، ولكنكم لن تكسبوا غير توريث الخصومات وخلق العداوات بيننا إذا ظلت سياسة صلاح سالم قائمة. لقد وقفتم معنا بالأمس فكانت الاتفاقية التي أكسبت السودان هذا الوضع القائم، وأكسبت مصر تقدير السودانيين، فماذا يضيركم لو وقفتم معنا ونحن نسير نحو الاستقلال، وهو دعوة طبيعية تنبع من ضمير الشعب، فتعينوننا على تحقيقه وتكمل مصر رسالتها الكريمة نحو السودان، ويتضاعف تقديرنا وتتوثق بيننا العلائق الطبيعية الأصلية لا الزائفة التي تشترى اليوم لينكث عنها غداً. إننا نأمل من بطل الثورة في مصر ألا يتنكر لدعاة الحرية في السودان، لا يكره لنا ما أحبه لنفسه وبلده وألا يسمح لصلاح سالم أن يجند أموال مصر وشذاذ السودان وإحداث اضطراب لن تخسر فيه إلا مصر، حقق الله لمصر والسودان ما ترجوان من حرية كاملة». لقد كان لهذا الصحافي الهرم كلمته في الأحداث الجارية، فقد حددت رسالته لعبد الناصر أطر العلاقة بين البلدين، وأغلقت الباب أمام أية محاولة تحيد عن خط الاستقلال، ووضعت الحكومة أمام مسؤولياتها القومية لتحقيق أمل الشارع السوداني في الاستقلال، كما عبأت الجماهير للتماسك وعدم التفريط في حقوقها، الأمر الذي وجد تجاوباً تاماً لدى الجماهير وتفاعلاً مع الأحداث الجارية. نضع هذه الرسالة أمام جماهيرنا الآن في زمن التشتت والاقتتال، ليأخذوا منها العبر من أجل أن نقتدي بالسلف الصالح، ونعمل على رتق النسيج السوداني. وفي مقالنا القادم أهم وثائق التاريخ رسالة إلى الزعيم إسماعيل الأزهري. المصادر: د. يحيى التكينة إسماعيل العتباني هرم الصحافة السودانية تحت النشر