سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مصر والسودان.. جدلية السياسة والتاريخ«2» الأزهري: مصر لن تقف عقبة أمام إرادة السودانيين في تقرير مصيرهم
خضر حمد حمل قصيدةً تمجد محمد نجيب في القاهرة فاتهموه بمعاداة الثورة
كان الرئيس المصري جمال عبد الناصر متفهماً لمواقف السودانيين، وكان عند رأيه في أن مصر مع خيار أهل السودان، إلا أن الرجل القوي في حكومته الصاغ صلاح سالم كان على عكس ذلك تماماً ولم يكتف بتحذير السودانيين من خيار الاستقلال ولكنه سعى أيضاً إلى تثبيط همم الاستقلاليين، ودعم الاتحاديين وكان الزعيم الأزهري أحد أهدافه، بل على رأسها كما أشرنا في الحلقة الماضية، ولم يكن السودانيون يخفون مشاعرهم تجاه الرئيس المصري السابق محمد نجيب، وهذا ما لم تكن تقبل به الحكومة المصرية. وفي زيارة للسيد خضر حمد للقاهرة حمل معه قصيدةً كتبها الشاعر السوداني الكبير أحمد محمد صالح عنوانها«نجيب في عليائه» وذهب إلى إحدى المطابع المصرية لعمل «أكلشيه» منها فهاجمه ثلاثة من رجال الأمن والنيابة العسكرية وضبطوا معه القصيدة وأخذوها منه وفي اليوم التالي الذي وافق الجمعة الثامن من أبريل عام 1955م صدرت صحف الأهرام والأخبار والجمهورية تحمل عنواناً عريضاً واحداً هو«ضبط وزير سوداني، وهو يعد منشورات ضد الوضع الحالي في مصر» ولكن خضر حمد يعزي الموقف رفضاً لموقفه من الحوار حول مياه النيل ومشروع السد العالي، فيقول خضر حمد في مذكراته «إن مصر لا تريد أن تعترف بوجود الفائض من مياه النيل الذي يذهب إلى البحر الأبيض المتوسط قبل قيام السد العالي، والذي أرادت من أجله أن تقيم السد العالي وتريدنا أن نفهم أن هذا الفائض لن يكون حقيقة واقعة إلا بقيام السد العالي، وبذلك نتحمل نحن الفاقد من التبخير مناصفة معها لأننا سننتفع من السد العالي، ونحن نقول إن الماء حقيقة واقعة، وأن السد يقوم ليحجز نصيب مصر، ولها أن تنشئه أو تتركه، والماء يمر على السودان أولاً، وللسودان أن يأخذ حاجته دون أن يتحمل نصيبه في الماء الذي يتبخر في بحيرة السد العالي، ولذلك نريد أن نعرف نصيبنا من الاثنين والثلاثين مليار متر مكعب الذاهبة إلى البحر، وألا يربط هذا بقيام السد العالي.. ويضيف السيد خضر حمد «نحن لا نعتبر أن هناك مقارنة بين خزان الروصيرص الذي تعتزم حكومة السودان إقامته لتنتفع من نصيبها في الماء، وبين السد العالي ولهذا لا يمكن أن نربط بين قيامهما سوياً، وقد أكد الجانب المصري فيما سبق عدم تعارض خزان الروصيرص مع السد العالي حتى إذا تأخر قيام السد». وكانت الإذاعة المصرية قد شنت هجوماً شديداً على وزير الري السوداني واتهمته بالتحيز، وحملته مسؤولية فشل المفاوضات، وبعدها جاءت حادثة القصيدة التي أشرنا إليها. في أبريل عام 1955م قاد السيد إسماعيل الأزهري وفد السودان المشارك في مؤتمر باندونق بأندونيسيا، وأعلن الأزهري في خطابه أن بلاده تسير بخطى راسخة قوية نحو الاستقلال، وأنها تأمل أن تبلغ غايتها خلال الأشهر القليلة المقبلة، ولما وصل الوفد القاهرة في طريق عودته إلى السودان حشد الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد القومي المصري وشؤون السودان الحشود لتستقبله بالهتافات المعادية، إلا أن الزعيم الأزهري لم يتأثر بذلك ومضى في خطواته بثبات، لا سيما وأن موقف الرئيس جمال عبد الناصر واضح ومساند لخيارات أهل السودان، فيقول الأزهري « في مصر تحدثنا إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر ورفاقه حديثاً واضحاً، كان له أثر كبير في إزالة الشكوك والريب مما يحفظ لكلا البلدين ذاتيته وحريته، وكنا واثقين دائماً بأن مصر التي ساندتنا حتى وصلنا إلى هذه المرحلة، لن تقف عقبة أمام مشيئة الشعب الحرة في تقرير مصيره، مع رعاية المصالح المشتركة في تفهم وتقدير كامل، وقد استطعنا على ضوء هذه الروح أن نتطرق إلى بحث موضوع مياه النيل، وأنه ليسرنا أن ننقل إليكم أن مجهوداتنا قد أدت إلى أن تقدمت مصر بعرض يقضي بأن تكون مياه النيل مناصفة بيننا وبينهم، وسيكون هذا العرض المصري موضع درس الخبراء والفنيين السودانيين قريباً. لم تفتر همة الصاغ صلاح سالم في مناهضة دعاة الاستقلال من السودانيين والذين نحوا هذا المنحى من الاتحاديين بقيادة الرئيس إسماعيل الأزهري، وكان يدعم دعاة الوحدة الذين يقودهم السيد محمد نور الدين وكيل الحزب الوطني الاتحادي، وكان نور الدين الأنشط في الترويج لفكرة الوحدة مع مصر، ومن طرائف دعواته هذه أن جمع حشداً من مواطني حلفا الذين هم أهله، ليحدثهم عن الوحدة ولتقريب المثال سألهم « لو كان في بيتين وبينهم جدار، هدينا الجدار، يحصل إيه».؟ فردوا عليه بصوت واحد «يحصل خرابة» فقال لهم « لا.. يحصل اندماج». وفي الثاني والعشرين من شهر يوليو 1955 غادر الرئيس إسماعيل الأزهري إلى القاهرة على رأس وفد كبير للمشاركة في أعياد ثورة يوليو المصرية، وأقيم له في مطار القاهرة حفل استقبال رسمي وأُنزل الوفد في فندق ميناهاوس في منطقة الأهرام، واعتبر الوفد السوداني ذلك إبعاداً له من وسط القاهرة، وكانت هناك مجموعات صغيرة في الطريق تهتف للسيد محمد نور الدين أمام الوفد، ويعتقد أن ذلك تم بتحريض من الصاغ صلاح سالم، وفي اليوم التالي كان هناك عشاءً معداً في نادي الضباط بالزمالك، واختير للوفد السوداني مكاناً قصياً ليس فيه أحد، ولكنهم أخذوه إلى مكان آخر بعد وصول الرئيس الأزهري، وطلب الأزهري اجتماعاً مع الرئيس جمال عبد الناصر، حدد له مساء اليوم التالي في قصر الطاهرة على مائدة العشاء، وحضر ذلك اللقاء من الجانب المصري مع الرئيس جمال عبد الناصر المشير عبد الحكيم عامر وكمال الدين حسين، وزكريا محي الدين، وصلاح سالم من أعضاء مجلس قيادة الثورة وحسين ذو الفقار صبري العضو المصري في لجنة الحاكم العام. ذكر الأزهري في هذا اللقاء أنه كان قد طلب أكثر من مرة من القادة المصريين إعانته في تعريف نوع العلاقة التي ينشدونها بين مصر والسودان، وأوضح لهم أن السودانيين متأثرون لإبعاد الرئيس محمد نجيب، وهذا ما دعاهم لأن ينحازوا لخيار الاستقلال، وتحدث كذلك عن نشاط ممثلي مصر في السودان وتدخلهم في شؤون الحزب الوطني الاتحادي وفي شؤون البلاد عامة، وذكّر الأزهري الرئيس جمال عبد الناصر أنه كان قد اتفق معه على وقف هذا النشاط، ولكن المندوب المصري في لجنة الحاكم العام استمر في اتصالاته بالنواب، ومساومتهم للخروج من الحزب. وطلب الرئيس عبد الناصر من الأزهري أن يتصل به مباشرة في كل أمر يهم السودان ومصر. نواصل