بغض النظر عن مسارات الحلول والمقترحات والمبادرات المطروحة، لإنهاء الحرب والصدام المسلح في دولة جنوب السودان، من أطراف إقليمية ودولية أهمها منظمة الإيقاد والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدةالأمريكية والصين ودول أخرى في المحيط القاري، إلا أن الواقع على الأرض وحقائق ومعطيات الأوضاع تشير إلى أن دولة الجنوب الوليدة تواجه مستقبلاً مظلماً محفوفاً بالمخاطر التي قد تعصف بوجود وتماسك الدولة كلها، كما نشرت وسائل إعلام بريطانية عن احتمالات انقسام الجنوب نفسه إلى ثلاث دويلات تتوزع حسب الحدود الإدارية القديمة في الجنوب «بحر الغزال وأعالي النيل والإستوائية». والملاحظ لكل المراقبين للشأن الجنوبي، أن هذه الدولة الحديثة لم تنقسم رأسياً بالصراع السياسي في قيادة الدولة والحركة الشعبية، فقد حدث انقسام أفقي على مستوى القبائل والمجموعات السكانية، فقبائل الدينكا أكبر المجموعات العرقية في دولة الجنوب وكبرى القبائل النيلية منقسمة على نفسها، فدينكا بحر الغزال وواراب ليسوا على وفاق مع مجموعات مؤثرة من دينكا بور وكامل مناطق البحيرات وجونقلي، وقبيلة النوير التي ينتمي إليها رياك مشار الذي يقود المعارضة السياسية والمسلحة ضد رئيس الدولة سلفا كير منقسمة هي الأخرى على نفسها، وتوجد مجموعات من النوير تقف مع سلفا كير وتقاتل معه اليوم وفقاً لمصالحها الآنية وربما المصالح المرسلة. والقبائل الإستوائية بدورها لم تسلم من الانقسامات الداخلية، وتنتظر فرصتها للتعبير عن مواقفها العلنية حال بروز نتائج واضحة للصراع وإلى أي طرف ستكون الغلبة وما هي الجهة ذات الشوكة.. فاللاتوكا والتبوسا وجزء من المنداري والباريا والزاندي يقفون مع رياك مشار بينما القيادات السياسية والعسكرية منهم مع سلفا كير، بالرغم من وجود قيادات في الطرف الآخر المناوئ له من الإستوائيين مثل كوستا مانيبي المعتقل اليوم. وفي أعالي النيل وامتدادات نهر السوباط وجونقلي والوحدة والبحيرات وشمال أعالي النيل، حيث اللاونوير والنوير والأنواك والشلك والمورلي وقليل من الدينكا، فإن التشظي الداخلي لهذه القبائل سيكون عاملاً مؤثراً في صراعات الجنوب الحالية ولا يعطي أفضلية قوة لأي طرف من طرفي التنازع. وفي بحر الغزال فإن الدينكا الموالين لزعيم الدولة سلفا كير يمثلون أكبر كتلة متماسكة، بالرغم من وجود الفراتيت في غرب بحر الغزال والجور حول مدينة واو وقبائل أخرى، وستكون كل بحر الغزال ملتفة حول سلفا كير إلا جيوب صغيرة مثل دينكا أبيي الذين وقفوا على الضفة الأخرى. وعلى هذه الخلفية تبدو التحالفات القبلية والسياسية والعسكرية في الجنوب واضحة إلى درجة أنها تعطي نتائج ما ستتمخض عنه هذه الحرب، فلن يكون هناك حسم ونصر ساحق لأي طرف على الآخر، غير أن الاستنزاف المتبادل سيكون كبيراً جداً، وسيستمر الكر والفر بين الجانبين دون أن ينتهي الاحتراب بالضربة القاضية. وهنا تلعب القوى الدولية والإقليمية على خطوط وإحداثيات هذه الحقائق، للتوصل لتسوية عاجلة ومقبولة للطرفين، فقد يسهل الاتفاق لكن لن تتأسس أية مقومات للثقة بين الجانبين، وسيتخذ كل طرف من هذه التسوية المحتملة استراحة محارب يتأهب فيها للانقضاض على غريمه حالما تسنح السوانح. ومن الضروري عند قراءة المشهد الجنوبي الحالي، معرفة اتجاهات الرياح الإقليمية والدولية، فالإقليم كله يعترف بشرعية سلفا كير ولا يريد ذهابه بالحرب والعنف والانقلابات، ويتشارك في هذا التعاطي مع القوى الدولية، ويعرف هشاشة الوضع والتحالفات القائمة فيه، وضعف بنية الدولة الجنوبية نفسها، وهذا ما يمكن الإقليم من الضغط على الطرفين لقبول مقترحات التسوية ويسرع من وتيرة التفاوض المنتظر. وتقول تقارير دبلوماسية غربية في العاصمة الجنوبيةجوبا وفي نيروبي وكمبالا وأديس أبابا والخرطوم، إن فرص نجاح تحالف رياك مشار المعارض لسلفا كير قليلة في حال اختار الحرب، فتركيبة التحالف ليست متناسقة وحلفاء اليوم كانوا أعداء الأمس، فإن تناسوا خلافاتهم تحت الظروف الضاغطة والمصائب التي جمعت المصابين، فإن الحذر وانعدام الثقة الكاملة والتشكك في النوايا، هو ما يحدد مستقبل التحالف المعارض بقيادة مشار. ولذلك فإن أية قراءة استشرافية دقيقة لما ستؤول إليه الأوضاع في دولة الجنوب يجب أن تأخذ في الاعتبار أن الأمور معقدة أكثر مما يتصور، وليس من السهل كتم وإسكات دمدمة البنادق والاستماع لصوت العقل في بلد قلما كان منصتاً لهذا الصوت!!