قبل حوالي عامين قالت وزارة التوجيه والتنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم، إن الدراسات توصلت إلى أن «140» ألف تلميذ وتلميذة بولاية الخرطوم لا يتناولون وجبة الإفطار، وأكدت أنه سيتم دعم الوجبة المدرسية للتلاميذ ضمن الدعم المقدم من رئيس الجمهورية ل«150» ألف أسرة فقيرة بالولاية، والسؤال: هل تم فعلاً تنفيذ هذه الخطة، وإذا تم تنفيذها ما هي إسقاطاتها الإيجابية للتخفيف من أزمة الفقر في مدارس الأساس. وقبل سنوات أجريت تحقيقاً صحفياً قصيراً حول هذه القضية، وأوردت نماذج حقيقية مأساوية تعبر عن مدى حالة البؤس والفقر في تلك المرحلة الدراسية الحساسة، وأحسب أن ما نشرته، وإن لم يتكرر بنفس تفاصيله، فهو يتكرر يومياً لكن بصور مختلفة. فقد حكت لي معلمة مخضرمة رواية آنذاك جرت وقائعها في إحدى الولايات تنضح بالمأساة، وبطلة هذه القصة الحزينة طفلة في المراحل الأولى من الأساس لعلها الآن تخرجت في الجامعة أو على الأقل على أعتاب التخرج، هذا إذا لم تهزمها ظروفها القاسية وأثرت في مسيرتها التعليمية، وتفاصيل الحكاية هي أن مديرة إحدي مدارس الأساس لاحظت أن تلميذة صغيرة لا تتناول وجبة الإفطار، وأنها تقف تنظر لزميلاتها وهن يأكلن، وحين تكرر هذا المشهد أخذت تتابعها ثم لاحظت أنه عندما تنصرف البنات تأخذ التلميذة بقية الساندوتشات «التوستة» آنذاك، وتذهب به إلى صنبور المياه وتبلله بالماء ثم تسارع بالتهامه. وحين شاهدت المديرة هذا المشهد بكت تأثراً وحكت الرواية لزميلاتها المعلمات اللائي ذرفن الدموع الساخنة ثم صرن يدعين التلميذة لتأكل بقية الطبق بعد انتهائهن من تناوله، بيد أن محدثتي المعلمة قالت لي إنها اقترحت على زميلاتها أن يدعين التلميذة لتشاركهن الوجبة كل يوم بدلاً من ترك بقية الطعام لها ومن حينها ظلت التلميذة الصغيرة تشارك المعلمات وجبة الإفطار. وفي مشهد آخر قبل سنوات حكى لي عامل بسيط كان يعمل معنا في إحدى الصحف أنه لا يعطي أولاده مصاريف الإفطار فهم يحضرون في وقت الفسحة المخصصة لهذه الوجبة حيث تقوم زوجته «بعواسة» الكسرة ثم تضعها في الصحن وتصب عليها قليلاً من الزيت والملح فيتناولها أطفاله دون ضجر بل يتلهمونها التهاماً ربما تعويضاً لوجبة العشاء التي عادة لا تشبع بطونهم الخاوية، ويتكرر يومياً هذا السيناريو. ومن الحكايات الواقعية المؤلمة أن إحدى قريباتي حكت لي أنها شاهدت إحدى زميلاتها في مدارس الأساس وهي تلتهم ساندوتشاً محشياً بالملوخية، وتعجبت من ذلك. ولعل بعض التلميذات زميلاتها سخرن من هذا الأمر لكن التلميذة الجائعة ولصغر سنها لم تكن تبالي بهذه المداعبات الساخرة بل تعمل على التهام إفطارها الذي يتكون في الغالب من الملاح وربما «بايت». لا شك أن هذه المشاهد المأساوية ليست استثناء، فهي تتكرر في كل ولايات السودان مع اختلاف التفاصيل فقط، وهو ما يلقي بمسؤولية أخلاقية وإنسانية على المسؤولين في تلك المناطق، كما أنه يقدم لوماً لكل المقتدرين ورجال الأعمال الذين لا يهتمون بتقديم المساعدات الإنسانية لهذه الشرائح الضعيفة من المجتمع، في حين أن بعضهم يدفع مبالغ مليارية لتسجيل لاعب كرة قادم فاشل، لكن من حسن الحظ أن المجتمع السوداني متكافل ودائماً تحركه هذه المواقف الإنسانية، وبحسب تجربة الصحيفة في تقديم الحالات المحتاجة للدعم سواء أكان ذلك في العلاج أو الدعم المادي عبر صفحة «قلوب رحيمة» فإن أكثر المتفاعلين هم من شريحة الوسط، وبعضهم موظفون يعتمدون على راتبهم الشهري لمواجهة متطلبات الحياة القاسية لكنهم مع ذلك يقتطعون اللقمة من أفواههم لمساعدة المحتاجين، وما أكثرهم في هذا الزمان الذي كثرت فيه صناديق الدعم والجمعيات الخيرية، لكن يبدو أن الجعجعة أكثر من الطحين، أخيراً«يا ناس الدعم الحكومي وشبه الرسمي فول وطعمية كان جبتوه للمساكين ديل ما قصرتوا لكن بس أوعوا من الكاميرا».