مهرجانات من الفرح التاريخي وأهازيج حبلى بملحمة النصر تعزفها البلاد هذه الأيام بمناسبة الذكرى الثامنة والخمسين لعيد الاستقلال المجيد. ومهما تطاولت الحروف واشرأبّت أعناقها فلن تصل إلى قامة الشرف الباذخ والنصر الباهر، وحيث عجز يراعُنا عن التعبير وجفَّ مدادُنا نتَّجه صوب رمز من رموز هذه المرحلة ومخضرم وشاهد عيان عليها بل من صناعها باعتباره كان من قيادات الحزب الوطني الاتحادي، حزب الزعيم إسماعيل الأزهري الذي أعلن الاستقلال من داخل البرلمان في التاسع عشر من ديسمبر «1955م»، وكذلك رفع العلم في مطلع يناير «1956م» باعتباره أول رئيس لحكومة السودان الحرة المستقلة.. ما سر الاجتماع بين الأزهري والمحجوب بمنزل خال الأزهري عشية إعلان الاستقلال. كيف قاد الأزهري معركة النصر بحكمة وتجاوز الفتن والمحن وأقنع أحزاب المعارضة بإعلان الاستقلال في حينه.. وما دور السيدين في هذا الأمر.. وكيف فطن الأزهري لمكر الإنجليز بمطالبتهم بالجلاء التدريجي فأصر على جلائهم دفعة واحدة؟. وكيف حاول المستعمِر الدخول ثانية من بوابة الفتن السياسية فأُغلقت في وجهه كل السبل. ما علاقة حكومة الاستقلال بالضباط الأحرار بمصر وثورة يوليو «1952م» بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.. وقصة زيارة الضابط صلاح سالم وبعض الضباط الأحرار من مصر للسودان لتوحيد الاتحاديين والوقوف معهم. والتاريخ الحقيقي لنادي الخريجين ودوره النضالي.. وقصة الشاعر الذي نظم شعر هجاء للسودانيين الذين انضموا لمؤسسات استعمارية في حين رفضها الأحرار. كل ذلك في حوارنا مع الأستاذ والشيخ حسن عبد الله أبو سبيب القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل وعضو الحزب الوطني الاتحادي برئاسة الأزهري إبان فترة الاستقلال.. فإلى الحوار: في تلك الفترة الحرجة التي سبقت إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 91/21/5591م كيف حُسم الأمر لترجيحه مع اختلاف المشارب والمآرب؟ خيار استقلال السودان تم بإجماع كل أهل السودان على اختلافهم حزبياً وقبلياً وثقافياً.. إلخ وقد تم هذا الإجماع، ولكن رغم ذلك قبل ثلاثة أيام من إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 91/21/5591م، قبلها أي يوم 61/21/ تقريبًا حدثت مشكلة كبيرة كادت تعطل هذا الإعلان من داخل البرلمان، فعندما سمع قيادات حزب الأمة وكانوا في المعارضة والحزب الوطني الاتحادي بقيادة الأزهري كان حزب الأغلبية، فعندما سمعوا بأن الرئيس الأزهري سيعلن الاستقلال احتجوا احتجاجاً شديداً واعتبروا الأمر ظلمًا لهم وسرقة لإنجازهم وشعارهم الذي ظلوا يرفعونه طويلاً وهو استقلال البلاد حيث إن الاتحاديين الوطنيين آنذاك كان شعارهم الاتحاد مع مصر، ولكن الأزهري برر تحوله وحزبه من الاتحاد مع مصر إلى الاستقلال بأنه وجد كل القوى السودانية تريد الاستقلال فرضخ لرغبتها وتخلى هو وحزبه عن ميولهم الوحدوية مع جنوب وادي النيل «مصر»، حزب الأمة لم يفهم الأمر بهذا الفهم الوطني الراقي المتجرد من الذاتية، بل اعتبروا أنفسهم أصحاب الدعوة الحقيقية للاستقلال، وبالتالي لا يجب أن يعلن من قبل رئيس الحزب الوطني الاتحادي، ففكروا بنظرة حزبية ضيقة ونسوا المصلحة الوطنية العامة. وكيف تعامل الأزهري مع ذلك وتجاوز المعوقات منقذاً للأمر؟ الرئيس إسماعيل الأزهري تعامل مع الأمر بحكمة ووطنية وسعى لحل المشكلة حتى لا يُجهض المشروع الوطني الكبير وهو الاستقلال، حيث اجتمع الأزهري مع رئيس المعارضة البرلمانية محمد أحمد محجوب بمنطقة بيت المال بأم درمان بمنزل خال الأزهري، وشرح الأزهري وجهة نظره واقتنع بها المحجوب، واتفقا على عدم اعتراض نواب المعارضة «الأمة» لإعلان الاستقلال من داخل البرلمان، وهكذا استطاع الأزهري بحكمته ووطنيته أن يحتوي المشكلة ويُفهم المعارضين أنه لا يريد سحب البساط من تحت أرجلهم كما فهموا، فقط يريد سحب بلاده من قبضة الاستعمار الإنجليزي. الزعامة الروحية آنذاك كان لها نفوذها وكلمتها التي لا تُرد ولا تُصد.. ماذا فعل السيدان عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني إزاء ذلك؟ الإمام عبد الرحمن المهدي قام باستدعاء ابنه السيد الصديق المهدي والمحجوب ونواب حزب الأمة بالبرلمان وطالبهم بعدم معارضة الزعيم الأزهري في إعلان الاستقلال وعدم تأخيره لأنه أمر وطني يجب أن يُفعل وخير البر عاجله، واقتنع نواب المعارضة برأي زعيمهم وكبيرهم، وفي ذات الإطار استدعى السيد علي الميرغني زعيم الاتحاديين لاجتماع عاجل مع الأزهري لمباركة نفس الأمر، وهذا ما رواه لي السيد محمود الفضلي، وحينها كنا أعضاء بالحزب الوطني الاتحادي، وكان هو الحزب الوحيد للاتحاديين آنذاك وزعيمه الروحي السيد علي الميرغني ورئيسه الرئيس إسماعيل الأزهري. حدثنا عن إرهاصات ما قبل الاستقلال بالشارع السوداني عامة والتنظيمات الوطنية والنضالية خاصة؟ الشارع العام كان مهيئاً لتحقيق الاستقلال، وكانت هناك إرهاصات وثورات كثيرة بمناطق مختلفة وعلى فترات مختلفة بالسودان، أبرزها ثورة عام 1924م وهي ثورة اللواء الأبيض وكذلك ثورة ود حبوبة بمنطقة الحلاوين وغيرها، فهذا اليوم المشهود كانت له إرهاصات. نادي الخريجين رغم أنه كان نادياً وطنياً نضالياً للكل فقد كان أقرب للاتحاديين.. فسِّر ذلك؟ نادي الخريجين كان أقرب للاتحاديين وأسس في بداية الأربعينيات بمنزل الشهيد يوسف الهندي وكان مكوناً من غرفتين، وهذا النادي افتتح رسمياً ووضع حجر أساسه بعد الاستقلال الرئيس الأزهري. عفواً ولكن هذا النادي الذي تتحدث عن افتتاحه وظهوره في الأربعينيات على حد علمنا أنه نشأ قبل ذلك بما يقارب العقد من الزمان.. فهل بدأ سرياً؟ نادي الخريجين أصلاً وفي الحقيقة أُسس باكرًا منذ أن بدأ الاتحاديون يدعون لوحدة وادي النيل مع مصر ولكنه في البدء كان شبه سري وزاد نشاطه عام 1948م في عهد الملك فاروق ملك مصر آنذاك. يوم رفع علم السودان في 1/1/6591م كان يومًا مشهوداً ارسم لنا لوحة حيَّة لذلك اليوم بصفتك شاهد عيان؟ يوم 1/1/6591م يوم رفع علم استقلال السودان خرج الشعب السوداني في مواكب مهيبة وضخمة سيراً على الأقدام من أم درمان إلى الخرطوم وكانت النساء المناضلات يتقدمن الموكب وهن يرددن بحماسة ما قاله الشاعر عبيد عبد النور، حيث قال: يا أم ضفاير قودي الرسن واهتفي فليحيا الوطن اصلوا موتاً فوق الرقاب بالرصاص أو بالحراب البنول عند الله الثواب اليضحي ويلقى العقاب، وسار هذا الموكب الجماهيري الذي يملؤه الحماس حتى وصل إلى سراي الحاكم العام بقيادة مولانا السيد علي والسيد عبد الرحمن. جلاء جيش وحكام الاستعمار الإنجليزي من السودان عقب الاستقلال ورفع علم السودان صاحبه بعض المكر من المستعمِر حيث طالب بالجلاء تدريجياً بغية المماطلة، كيف حُسم وأُخرج كلياً؟ كانت هناك مؤامرة تحاك في الظلام لإسقاط حكومة الأزهري قبل قيامها وإجهاض الاستقلال ووأده في مهده وذلك بتأخير إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في اليوم المحدد له، وهكذا أقنع الإنجليز تجمع قوى الأنصار أن يتم الجلاء لقواتهم من السودان بالتدريج، وكاد الأنصار يوافقون على هذا الخط وكادت تحدث فتنة وعرقلة للأمر، ولكن الأزهري بحكمته وفطنته انتبه للمكيدة الاستعمارية وأصر على أن يتم جلاء الإنجليز من السودان دفعة واحدة وفوراً. بعد حسم الجلاء التدريجي للمستعمِر لم ترتح حكومة الأزهري من فتنة الإنجليز ودسائسهم حتى يجدوا ثغرة للعودة والتدخل بالبلاد كيف حُسم؟ الإنجليز كانوا يريدون الانهيار الدستوري لحكومة الأزهري للبقاء في السودان بحجة أن السودان لا يصلح لحكم نفسه، لكن الأزهري عندما فطن لهذه المؤامرة أصر على الجلاء التام بعد الاستقلال، فقد لاحظ أن الحاكم العام «الإنجليزي» بدأ يكوِّن المجلس الاستشاري لشمال السودان ثم الجمعية التشريعية، لتكون أداة للخلاف داخل الحكومة الوليدة. ما موقف الزعيم الأزهري ورفاقه إزاء ذلك؟ هل ساروا مع التيار أم ضده وكلاهما صعب؟ أعلن الأزهري ورفاقه رفض تكوين أي مؤسسات أو تنظيمات من قِبل الحاكم العام وأنه آن لهم أن يكونوها وحدهم كسودانيين وأعلنوا من داخل البرلمان رفضهم لها وقالوا «نحن نقاطع هذه المؤسسات الاستعمارية وإن جاءت مبرأة من كل عيب»، ونواب حزب الأمة دخلوا هذه الجمعية التشريعية والاتحاديون قاطعوها، لأن الاستعمار أراد بها تأخير الاستقلال، وكُونت الجمعية من قِبل الاستعمار والتي رفضها الاتحاديون، كُونت برئاسة محمد صالح الشنقيطي وزعماء العشائر ونظار القبائل. كيف كانت ردود الفعل عامة تجاه من انخرطوا في مؤسسات الاستعمار الجديدة؟ كان رفضاً عنيفاً من قبل الوطنيين الذين يفهمون جيداً دسائس الاستعمار وإخفاءه للسم في الدسم، ومن أشكال الرفض المنظومة الشعرية الهجائية الشهيرة للشاعر الكبير آنذاك محمود الفكي فقال يهجو هؤلاء المنضمين للجمعية أهل الجبة المتروزة تركوا الولد والبوزة وشرابهم بقى كازوزة ويواصل هجاءه لهم بذكرهم بالأسماء في صحيفة الرائد آنذاك فيقول: ناس اب سن واب جن جاطوها وموية الصعيد شربوها ودخلوا الدار المشبوهة «ترك» الترك الحولية ودخل الحضرة السفلية بين التاكا وبين هزلية وقدم قبليته ضحية ؛ «يقصد الناظر ترك بشرق السودان» ويواصل: تمساح جزائر بارا الفك الجنيه ببارا يعرض بلا زمارة ؛ «يقصد الزعيم تمساح بمنطقة بارا». ثورة يوليو 1952م بمصر بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر «الضباط الأحرار» ما مدى العلاقة بينها وبين السودان وهو على مشارف الاستقلال؟ الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كان يحب السودان ويحرص عليه وعلى وحدته، وقد دعا الفصائل الاتحادية المختلفة للانضمام تحت حزب واحد وجمعهم وتشاور معهم وأقنعهم بالوحدة التنظيمية، فكان الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي استمر إلى الآن، وكان الحزب منقسماً إلى حزب الأشقاء وحزب الأحرار الاتحاديين وحزب وحدة وادي النيل، وانتدب الرئيس جمال لإتمام هذه العملية عدداً من الضباط الأحرار إلى السودان وعلى رأسهم الضابط صلاح سالم، وتم توحيد الفصائل تحسباً لعدم حدوث انهيار دستوري للسودان بعد استقلاله. نشأة السودان المستقل صاحبتها توترات وعوائق كثيرة فكيف تحلل منها سيما والسبب الخلافات السياسية، فهل تشبه الليلة البارحة؟ في مرحلة نشأة السودان المستقل كادت الخلافات الحزبية الداخلية والخارجية تقضي على الحكومة وشرعيتها ودستوريتها، وما أشبه الليلة بالبارحة! فما زالت الخلافات السياسية تقضي أو تعصف بالحكومات إلى يومنا هذا، المهم في الأمر أنه في ذلك الوقت حدث خلاف بين الحزب الوطني الاتحادي «حزب الأزهري» وحزب الشعب الديمقراطي، وكانا في الأصل حزباً اتحادياً واحداً، وبعد ذلك حدث ائتلاف بين حزب الشعب وحزب الأمة جناح الإمام الهادي وتآمروا على حكومة الأزهري وأسقطوها قسراً بعد إعلانه للاستقلال من داخل البرلمان وتحقيقه لحلم السودانيين، وكونت الحكومة معظمها من نواب حزب الأمة ليكون عبد الله خليل رئيساً للوزراء وعلي عبد الرحمن وزيراً للداخلية من حزب الشعب ومحمد أحمد المحجوب وزيرًا للخارجية. يقال إن السيد عبد الله خليل رئيس الوزراء آنذاك هو من سلم الحكومة للعسكر وأول من سن سنة الحكومات العسكرية، ما قولك أنت؟ السيد عبد الله خليل ضاق ذرعاً بالخلافات داخل الحكومة بين وزراء حزب الأمة ووزراء حزب الشعب الديمقراطي وفشل في إيجاد حل للخلافات الدائمة، فقرر الانسحاب وتسليم الحكومة للجيش، واتصل بالسيدين عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار وحزب الأمة وأبلغه فشله في إدارة البلاد وعزمه تسليمها للجيش وكذلك فعل نفس الشيء مع السيد علي الميرغني راعي حزب الشعب الديمقراطي وأبلغه بأنه يريد تسليم الحكومة «للعقلاء من الجيش»، فضحك السيد علي الميرغني ساخراً وقال إنه «وهل بالجيش عقلاء؟!» ؛ أنت يا عبد الله فتحت باباً لن يُغلق أبداً وسيأتي ويتوالى على البلاد عبود وعبود.. إلى يوم يُبعثون؛ قد صدق حدس الرجل الاتحادي والصوفي الحكيم، فما زلنا حتى الآن نعاني من إجهاض الديمقراطية بالعسكرية. حدِّثنا عن كفاح المرأة في فترة الاستقلال وأبرز الرائدات في العمل النضالي الوطني حينها؟ هناك رائدات كافحن لنيل الاستقلال وكن ناشطات بالعمل النسوي النضالي قبل وبعد الاستقلال، ومنهن السيدة عزيزة مكي والأستاذة نفيسة أحمد الأمين والدكتورة المناضلة خالدة زاهر. علم السودان الذي رُفع صبيحة الاستقلال حدثنا عن تبلور فكرته وتنفيذها؟ ألوان علم السودان تتواءم مع نشيد العلم في تجانس تام ودقيق، وقد وضعها الشاعر الكبير والأديب وعالم اللغتين العربية والإنجليزية الأستاذ أحمد محمد صالح، فاللون الأصفر يرمز إلى الصحراء والأزرق إلى النيل والأخضر الى الزرع. أخيراً ماذا تقول بمناسبة الاستقلال وما هي القيم التي يجب التحلي بها محافظة على هذا الإنجاز الوطني الكبير؟ السودان الآن يمر بمنعطف تاريخي خطير بأن يكون أو لا يكون، وفي ذكرى استقلاله يجب أن تسود الروح الوطنية ويجب أن نستصحب التجارب والتقلبات في الحكم الكثيرة التي مرت بها البلاد ونأخذ منها العبر وصولاً للاستقلال الحقيقي الذي يصون البلاد التي مرت بعد الاستقلال بعدم استقرار بالحكم. ماذا تقصد بعدم الاستقرار بالحكم فالكل له شرعيته؟ لم تُحكم ديمقراطياً إلا قليلاً ومرت بثلاث فترات عسكرية فترة الرئيس عبود ستة أعوام، وفترة الرئيس نميري ستة عشر عامًا، وفترة الإنقاذ الوطني أربعة وعشرين عاماً، ومازالت مستمرة حتى الآن، فالمطلوب وقفة وطنية موحدة من الجميع ونحن نستحضر هذه الذكرى الطيبة وأن يكون السودان حقاً لكل السودانيين.