استقلال السودان نفسه لم يكن محل إجماع للأحزاب وقتذاك، وهذا يعني أن علاقاتها ليست على ما يرام كما أن رؤاها متصادمة في ظل غياب برنامج وطني متفق عليه لتأسيس مشروع سياسي يضمن استقرار الحكم وتداوله فالشيء الطبيعي كان أن ينهار الائتلاف في عمره الباكر كنتيجة حتمية للتشاكس فمجيء الجنرال عبود لم يكن سوى إعلان بفشل النخب السودانية في حكم البلاد والالتفات لقضاياها وابتداع الحلول لحكم وطني مدني راسخ لاسيما وأن السودان لم يمض على استقلاله أكثر من عامين على الأرجح بالنظرإلى فترة حكم إبراهيم عبود على قصرها نجد أنها أنجزت الكثير للسودان الوليد حينما استطاعت تنفيذ امتداد المناقل مع ألمانيا وتشيلوسلوفاكيا والذي يعادل 60% من إجمالي مساحة مشروع الجزيرة الحالي حيث إن مشروع الجزيرة الذي أعده الإنجليز في 1925م كان لضمان توفير القطن لمصانع لانكشير البريطانية فحكومة عبود استطاعت توطين الكثير من السكان من خلال منحهم حواشات في امتداد المناقل ولذلك أثره الكبير في رفع المستوى المعيشي للسودان بأسره فضلاً عن توفير العملات الصعبة التي كان يجنيها السودان من عائدات القطن بالإضافة للعمالة الكبيرة التي يوظفها المشروع في جني القطن وأعمال الحلج والمناولة علاوة على زيادة دخل المزارع نفسه.. عمومًا كان حكم عبود رحمة وفرصة لنهضة السودان حيث بدأ فورًا في إنجاز مشروعات النهوض الكبرى مضافًا إلى ذلك تعامله الحاسم مع تمرد الجنوب الذي شارف على النهاية وكان في المستطاع القضاء عليه نهائيًا لكن في المقابل كان هناك نشاط كنسي مكثف قامت به ألمانيا وبريطانيا لإنقاذ تمرد الجنوب المتهاوي فثورة أكتوبر كانت نتاجًا لهذا النشاط ومؤامرة وطنية على حكم عسكري ناجح يستطيع أن يخلد بفضل إنجازاته، فعبود نفسه جاء بعد فشل النخب في التواضع على حكم السودان أوبالأحرى بعد يأس عبد الله خليل في المدنيين فلم يكن أن تقود نفس النخب تقويض حكم عبود لتحكم هي غير أن المعادلة السياسية في السودان وتكوينه يهزم دائمًا أحلام وآمال الأحزاب بسبب عدم استطاعة حزب لنيل أغلبية مريحة بسبب توزيع المناطق بين الحزبين الكبيرين آنذاك فتأييد هذه الأحزاب إلى يومنا هذا لم يكن بداوعي دعم برنامج يرى فيه الناخب فائدة البلاد بل بحكم الانتماء الطائفي والروحي فمن المستحيل توظيف انتماءات روحية وعقائدية وإنجاز برامج سياسية فالأمر فيه أن ذلك وراء حجب الكفاءات، والحكم الناجح في الأساس يرتكز على أصحاب الكفاءة وذلك بدوره أضحى مشكلة في سبيل إنجاز مشروع سياسي مقبول يضمن الاستقرار.. عمومًا مهما يقال فإن حكومة عبود كان يمكن أن تعطي وتنجز بالتأكيد هذا لن يرضي أولئك الذين يناهضون الحكم الشمولي دون أن يقدموا شيئًا لأن واقع السودان لا يتفق ولا يتسق مع أفكارهم ورؤاهم السياسية فما يمكن قوله أيضًا أن الاستعجال في الانضمام لجامعة الدول العربية التي تعاني دولها من مشكلات كبيرة ومنقسمة حول قضية العرب المركزية «فلسطين» لم يكن صائبًا حيث كان بالإمكان الانضمام للكمونويلث بحكم أننا مستعمَرة بريطانية ونستطيع الانكفاء على قضايانا الداخلية بغية حلها وصنع الاستقرار وامتلاك أسباب النهضة كما فعلت دول كثيرة غيرنا لأننا بحاجة إلى جمع الأمة السودانية وبناء الدولة الوطنية فانقسام المثقفين السودانيين دائمًا بين مؤيد للسلطان ومعارض له قضى على المصلحة الوطنية حيث لم تعد مقدسة أوخطًا أحمر لا ينبغي تجاوزه ولقد رأينا مبالغة المعارضين في حقوقهم ومجافاتهم لنظم الحكم من لدن عبد الله خليل وحتى عهد الإنقاذ القريب ذات الشخوص التي تعارض وتحكم لم تزل ممسكة بنهجها منذ نحو نصف قرن، تغير الحال ولم تغير هي نهجها وطرائقها رغم التقدم الكبير في السن، ولا ندري كيف نستطيع أن نصنع مشروعًا مستقرًا للحكم في ضوء تفكير هذه النخب التي إن لم تحكم ستعارض فكان من المتوقع أن تنجح ثورة اكتوبر في إعلاء شأن الحكم المدني وتداول السلطة لكن ظل عدم الصبر على الحكم التعددي والشمولي فهناك أخطاء في تفكير الأحزاب والنخب وتعاطيها مع واقع السودان وتعقيداته فانقسام المثقفين الأبدي حول كيفية حكم السودان يظل العقبة أمام أي تحول في ضوء فشل النخب نفسها في تقديم طرح من شأنه جلب الاستقرار، فالعقلية ذاتها والنهج ذاته والمشكلات آخذة في الرسوخ والتعاظم والكيان الأكبر على شفير الضياع والتشرذم طالما هناك قيادات تجمع حولها الناس وليس زعامات تجتمع حولها الناس والشاهد الصادق على ذلك المطالبة دائمًا بتقصير الفترة الانتقالية بعد نجاح الثورات في أكتوبر وأبريل لم تزد الفترة على العام، فشوق قياداتنا للسلطة لا يغالب فهكذا نحن ندور في حلقة ونكرر الأخطاء وتنتج الأزمات دون أن نهتدي إلى السبيل القويم فهكذا نحن نزيح الحكام ونندم عليهم فالشعب الذي ثار في أكتوبر وأبريل استطاع أن يُنهي حكمًا كان قائمًا غير أنه لم يستطع عبر نخبه أن يختار المعادلة الدالة على الاستقرار والنماء فكأنما الثورة لم تقم من أجل تغيير أوضاع كانت سائدة ألحقت الضرر والأذى بل يقتصر دورها فقط في تغيير الحكام فما أكثر العبر وما أقل الاعتبار!! فما يثير العجب أن القيادات التي ألهبت ثورة أكتوبر لا تزال تمارس عملها السياسي أو بالأحرى فشلها، فالثورة دائمًا تجمع الناس على اختلاف مشاربهم لكن مخرجات الثورة دائمًا تفرق الناس وليس لدينا تفسير لهذه المصيبة التي لازمتنا لأكثر من ستة عقود من الزمان...