اطلعت على مقالين نشرا بهذه الصحيفة في يومي الجمعة والسبت الماضيين زعم كاتبهما هداه الله أن فيهما رداً عليّ في مقاليْ اللذين نشرتهما بهذه الصحيفة في الأسبوع الماضي بعنوان: «ثماني وقفات مع المحتفلين بالمولد النبوي». وأنا ممن يرحبون ويسعدون بكل مناقشة علمية موضوعية لما أكتب، إلا أني أُحبطتُ لما وجدت أن من صدّر نفسه للتعقيب على ما كتبت بشأن بدعية الاحتفال بالمولد أن يكون «مُقّلّداً» لا «باحثاً» وفرق بينهما!! فقدعرّف لنفسه بقوله: «ورداً على مقالتيك وبما أنني لست من أهل العلم بالحديث وعلوم الشريعة رجعت إلى كتاب «الجامع للأدلة القرآنية والسنة الصحيحية المحمدية وخلاصة الأقوال الفقهية» لجامعة إمام السنة العلامة العبد عبد الله محمد سعيد رحمه الله، واستعنت بتلامذته للحصول عل« الأدلة ومصادرها»أ.ه فالكاتب كما ترجم لنفسه: مقلد وليس بباحث ولا أدري على أي أمر بنى اختياره للكتاب المذكور والتلاميذ المذكورين لتكون تلك هي مصادر معلوماته؟! فهو يبين أنه يعتقد أمراً ويريد أن يدافع عنه قبل أن يعلم أدلته!! وهذا مزلق خطير من مزالق الضلال والانحراف، فالواجب على من يريد بلوغ الحق والنجاة في الدنيا والآخرة أن يستدل أولاً ثم يعتقد على وفق الأدلة الشرعية الثابتة وفق الاستدلال الصحيح، وأما أن يعتقد ثم يبحث عن أدلة تؤيد اعتقاده كما في المثال المذكور فهو خلل كبير. وإذا كان الكاتب قد لجأ إلى كتاب معين وتلاميذ معينين لشيخ معين ولم يجعل لنفسه البحث والنظر في الموضوع بمؤلفاته المختلفة ومظان البحث فيه المتنوعة، كما لم يرجع إلى زمان النبوة؛ حيث سيجد البيان الواضح والإجابة الشافية لسؤال مهم: هل احتفل النبي عليه الصلاة والسلام بمولده أو الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة أو غيرهم من أهل القرون الثلاثة المفضلة فعلوا ذلك؟! ولو أطلق لنفسه العنان في «البحث العلمي» وأخرج نفسه عن «رِبقة التقليد» لما نثر تلك الكلمات، ولما وقع في تناقض عريض، ولما أدخل نفسه في نفق مظلم محرج لا أدري كيف رضيه لنفسه!! وكيف يرضى بهذا «التهافت» أن يضع نفسه أمام أمر يجتهد المتصوفة لوجود ما يعطيه صفة الجواز!! وبيان أن الكاتب قد أدخل نفسه في حرج كبير أنه ادعى بقوله: «ورداً على مقالتيك»، وقال أيضاً: «وقف د. عارف ثمانية وقفات مع المحتفلين بالمولد النبوي» أ.ه ، إذاً الكاتب يعلم أني كتبت مقالين وليس مقالاً واحداً، ويعلم أيضاً أن الوقفات «ثماني وقفات».!، إذاً فلماذا اقتصر رده على المقال الثاني فقط؟! ولماذا لم يرد أو يعلق على الوقفات الأربع التي تضمنها المقال الأول؟! لا أدري ما عذر الكاتب لهذا الخلل الكبير!! هل ربما لم يجد لها إجابات في الكتاب الذي لجأ إليه للدفاع عن بدعة المولد؟! أم أن التلاميذ الذين لجأ إليهم قد حارهم الجواب عن الوقفات الأربع الأولى والتي وردت في المقال الأول؟! وهذا لا يعني أن ما كتب في التعليق على الوقفات من الخامسة وحتى الثامنة قد أصاب فيه، بالعكس، فهو قد جاء بجملة جهالات وأخطاء فادحة، كما أنه قد استخدم سياسة «الهروب» من بعض جزئيات مقالي ويظهر ذلك في تعليقه على بعض أبيات الغلو التي أوردتها وترك أكثر الأبيات دون تعليق!! ومن عجائب ما كتب أنه أجاب عن بعض الأبيات في الغلو ثم لما جاء لحديث «ما شاء الله وشئت» قال هذا خارج عن محل النزاع.. فالكاتب مارس نوعين من أنواع الهروب وهما «الهروب الكلي» وذلك بإهماله المقال الأول كاملاً ، و«الهروب الجزئي» وهو التعليق على بعض جزئيات مقالي وترك بعض الجزئيات المماثلة لها.. وقد كتب عجائب تدل على جهل كبير جداً للأسف الشديد - من ذلك قوله: «وكلمة دكتور كلمة غير عربية وهي مما اختص به النصارى فما باله تابعهم ، ثم إن له ( إيميل) والإيميل مما ابتدعته النصارى فما له لم يتنزه عنه» فالكاتب لا يفرق بين ما هو من خصائصهم وما ليس كذلك. ولما كان الكثير مما كتبه الكاتب في مسائل تتعلق بما ذكرته مما يحدث من الغلو في النبي عليه الصلاة والسلام في أيام وأماكن بدعة المولد وهذا جانب «تابع» في ما كتبته، ولم تكن كتابة الكاتب في ما أوردته من أدلة في بيان بدعية المولد «وهذا هو الأصل» في ما كتبتُ؛ رأيت أن أرفق الوقفات الأربع الأولى ليتبين للقراء لماذا أهملها الكاتب وأعرض عنها صفحاً، في منهجية ضعيفة تزعم الرد والتجهيل وهي تعرض عن أبرز وآكد وأهم ما قيل: الوقفة الأولى: إن من المعلوم أن من يحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم يدفعه إلى ذلك محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ورغبته في إظهارهذه المحبة، ولا يخفى أن محبته عليه الصلاة والسلام من الواجبات العظيمة في الدين، ولما كانت محبته تستلزم اتباعه وطاعته والتأسي به، كان لزاماً على كل من يحتفل بالمولد النبوي أن يتأكد ويتحرى من أن هذا الاحتفال بالمولد لا يوقعه في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي لا يناقض محبته التي يرجوها. وهذا الأمر المهم جداً يتطلب التجرد التام والبحث برغبة صادقة للوصول إلى النتيجة التي يتحقق بها موافقة الشرع والحصول على الأجر والثواب. الوقفة الثانية: من المؤكد جداً، والذي لا يختلف فيه اثنان أن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة رضوان الله عليهم وفي عهد التابعين وحتى سنة ثلاثمائة وخمسين للهجرة لم يوجد أحد لا من العلماء ولا من الحكام ولا حتى من عامة الناس!! قال بهذا العمل أو أمر به أو حث عليه أو تكلم به. قال السخاوي: «عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد»، وإن من المعروف في التاريخ أيضاً أن أول من أحدث ما يسمى بالمولد النبوي هم بنو عبيد الذين اشتهروا بالفاطميين وهم أصحاب بدع وتحريف للدين كما سطر عنهم ذلك في التاريخ، وبالتالي فهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، وهنا موضع تساؤل مهم!! لماذا لم يفعله الصحابة الكرام ولماذا لم يأمروا به؟! إذا كان هذا الاحتفال يعبّر عن محبة للنبي المصطفى عليه الصلاة والسلام فلماذا لم يأمر به عليه الصلاة والسلام؟! وقد قال: «والذي نفسي بيده، لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكونَ أحبَّ إليه من وَلَدِهِ ووَالِدِهِ». أخرجه البخاري ومسلم. وإذا كان هذا الاحتفال مما يُتقرب به إلى الله تعالى فلماذا لم يفعله الصحابة الكرام، وهم أكثر وأشد الأمة محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ضربوا الأمثلة العظيمة والرائعة في إثبات محبتهم للنبي أشد من محبة النفس والولد والوالد. الإجابة التي لا ينبغي أن يختلف عليها اثنان: أن يقال «لو كان خيراً لسبقونا إليه». قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها». هؤلاء السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم لا يمكننا أن نتصور أنهم جهلوا خيراً يُقربهم إلى الله زلفى وعرفناه نحن!! وإذا قلنا إنهم عرفوا كما عرفنا؛ فإننا لا نستطيع أن نتصور أبداً أنهم أهملوا هذا الخير. الوقفة الثالثة: هناك آيات وأحاديث كثيرة تبين أن الإسلام قد كَمُلَ، وهذه حقيقة يعرفها العالم والجاهل والأمي وغيرهم، وقد قال الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً». وقد سبق بيان أن هذا المولد لم يكن في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فنقول: إن هذا المولد إن كان خيراً فهو من الإسلام، وإن لم يكن خيراً فليس من الإسلام؟ويوم أُنزلت هذه الآية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» لم يكن هناك احتفال بالمولد النبوي، فهل يكون ديناً يا ترى؟! فالمولد إذا كان من الخير فهو من الإسلام، وإذا لم يكن من الخير فليس من الإسلام، وإذا اتفقنا أن هذا الاحتفال بالمولد لم يكن حين أُنزلت الآية السابقة؛ فبديهي جداً أنه ليس من الإسلام. ومما يؤكد هذا المعنى قول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الذي أورده الشاطبي في كتابه الاعتصام: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة» ثم قال: «اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً»، فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً«. انتهى كلامه. متى قال الإمام مالك هذا الكلام؟! في القرن الثاني من الهجرة، أحد القرون المشهود لها بالخيرية! فما بالنا بالقرن الخامس عشر؟! ولنتأمل مرة أخرى قوله: «فما لم يكن يومئذٍ ديناً؛ فلا يكون اليوم ديناً». اليوم الاحتفال بالمولد النبوي «دين»، ولا نحتاج إلى إثبات ذلك بالأدلة، فهي من أوضح الواضحات. فكيف يكون هذا من الدين ولم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين ولا في عهد أتباع التابعين؟! الوقفة الرابعة: إذا كان الاحتفال بالمولد النبوي بهذا الشأن فإنه يدخل ضمن البدع التي نهى عنها الشرع، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة». والوقوع في البدع من الخطورة بمكان، قال الله تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا». وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وكل بدعة ضلالة» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم، وقال عليه الصلاة والسلام : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم قال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». هذه النصوص وغيرها مما تدفع المسلم لأن ينتبه لأمره، ويخاف من الوقوع في مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحرص على التزام سنته ولا يعارضها بتقليد أو هوى أو تعصب لرأي أو طريقة أو غير ذلك، فإن الله تعالى قد حذرنا جميعاً من مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». وأواصل في التعليق على ما أورده الكاتب في الحلقات التالية إن شاء الله.