النزاع القبلي فى جنوب السودان ليس لم يولد يوم 15 ديسمبر الماضي اليوم الذى انشق فيه رياك مشار عن سلفا كير وكون جيشاً وملشيات تمردت على الجيش الأب، ولكنه قديم منذ استقلال السودان فى عام 1956م واعظمه ما يدور الآن بين قبيلتى النوير التى ينتمي اليها مشار والدينكا التى ينتمى إليها الرئيس سلفا كير. وقد خلف الصراع الحالى بحسب الاحصاءات التى جاءت بها الأممالمتحدة الكثير من الضحايا وصلت الى «1000» شخص وفرار الآلاف الذين قدرت أعدادهم بعشرة آلاف شخص معظمهم فر شمالاً الى السودان، ستة آلاف منهم الى دارفور التى هى اصلاً فى غنى عما يدور فى الجنوب أو حتى فى الخرطوم. وأصبح الوضع فى الدولة الوليدة خطيراً وربما ادى الى حرب اهلية شاملة بسبب الفشل الذى لازم النخب الجنوبية فى إدارة الدولة وسيطرة المطامع الشخصية الضيقة، الأمر الذى ساق الى التدخلات الأجنبية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالامريكية في السودان بالطبع نسبة للمساس بمصالحه المباشرة من نفط وتعاملات مشتركة والروابط القديمة والجوار والحدود المشتركة وتوتراتها نسبة لقضية ابيى التي استولت عليها مجموعة كانت تتبع لحكومة الجنوب سابقاً من خلال استفتاء احادى نهاية السنة الماضية. أما أمريكا فقد كانت الداعم الاساس لفصل السودان وتقسيمه الى دولتين مع سبق الاصرار والترصد وفقاً للدور السلبى الذى لعبته بتصاعد الحرب فى الجنوب وتشجيع الجنوبيين على المطالبة بقيام دولتهم التى لم يمر عامان عليها الا وعادت القهقرى للمربع الأول، وعادت أمريكا للعب دور آخر أشد خبثاً يتيح لها السيطرة على موارد الجنوب، فهى تتطلع للاستيلاء عليه وثرواته الهائلة، وهذا ما جعلها تسعى وتستخدم كل ضغوطها على فصله عن الأم ليصبح دولة ضعيفة ويكون لقمة سائغة لها، إلا أن النزعة القبلية والصراعات المتغلغلة بين الجنوبيين انفسهم حالت دون ان تصل الولاياتالمتحدة لمقاصدها، فدارت الكرة وارتدت فى ملعبها مما حدا بها للتهديد بما كانت تفرضه سابقاً على السودان من عقوبات مازال مفعولها سارياً عليه حتى الآن، لكنها هذه المرة تلوح بها للأشخاص وليس للدولة، معتبرة أن الزعماء الذين فشلوا فى إدارة بلادهم هم من يستحق العقاب وليس الدولة التى اعتبرتها ضعيفة، واستبعدت اتخاذ خطوات تضر باقتصادها خوفا على ما تطمع فيه من مصالح وثروات، وما قدمته من دعم للجنوب منافسة كل الدول الغربية والمجتمع الدولى، لتسيطر على الجنوب بعد استقلاله عن السودان، وأكد ذلك برنستون ليمان سفير أمريكا السابق بنيجيريا وجنوب افريقيا والمبعوث الخاص للسودان وجنوب السودان من عام 2011الى 2013م، ويشغل الآن منصب كبير المستشارين بمعهد السلام الأمريكى، حيث قال: «لقد أسهمت الولاياتالمتحدة في فترة حكم بوش الابن والرئيس أوباما بشكل كبير في ميلاد دولة جنوب السودان، وفى حقيقة الأمر تعتبر أمريكا الداعم الأكبر لجنوب السودان منذ استقلاله فى عام 2011م، ولا يمكن للولايات المتحدة تجاهل الوضع الحالي للنزاع فى جنوب السودان، ولكن لا سبيل للعودة للوراء مرة اخرى للوضع السابق، فالأزمة الحالية كشفت أن المؤسسات السياسية في جنوب السودان ضعيفة للغاية وغير قادرة على استيعاب الطموحات المتباينة والاحتياجات الأخرى للدولة الجديدة، وقال إنه يجب على المجتمع الدولى وليس على امريكا وحدها، وكل الدول والهيئات الافريقية والامم المتحدة وشركائها الاوربيين الانخراط بصورة أكبر فى أزمة جنوب السودان»، وقد أظهرت أخيراً وثيقة من وثائق ويكليكس الدور الذى لعبته السفارة الأمريكية بالسودان فى فصل الجنوب عام 2006م، حيث أرسلت وثيقة عن اجتماع فى الخرطوم لقادة الحركة الشعبية مع جنداي فريزر مساعدة الشؤون الافريقية لوزيرة الخارجية الامريكية، وحينها كونداليزا رايس قالت لياسر عرمان ومالك عقار ودينق ألور عندما تحدثوا عن أن جون قرنق كان يريد الوحدة، إن الامريكيين لا يريدون الوحدة، وقالت إن امريكا تريد تغيير الحكم فى السودان وليس فقط الحكومة، وقالت إن المصالح الأمريكية اهم من صداقة امريكاللجنوبيين ولم يعترض اى منهم. والآن تشيد بجهود السودان ومحاولاته لعب دور فى حل قضية الجنوب وتدفع به دفعاً فى سبيل التدخل للتأثير على المتنازعين، وتثني على الزيارة التى قام بها الرئيس البشير لجوبا الاسبوع الماضى، وتنفى فى اول سابقة امريكية لصالح السودان أن يكون له دور سالب في ما يدور من قتال على أرض الجنوب، وذهبت لأكثر من ذلك عندما قالت المتحدثة باسم الخارجية الامريكية ان الحكومة السودانية تعمل من أجل مفاوضات سلام بين المتنازعين فى الجنوب. وكأني بالولاياتالمتحدة وقد تمثل فيها تماماً المثل السودانى الشائع «التسوى بإيدك يغلب أجاويدك» فهي التى سعت سعياً حثيثاً لانفصال الجنوب طمعاً فى ثرواته والاستئثار بها دون السودان، لعلمها التام منذ التنقيبات التي قامت بها شركة شيفرون واكتشافها أن الجنوب يعوم على بحيرة من النفط. وكان مسؤولون أمريكيون قد عكفوا بالفعل بحسب الوكالات على إعداد خطة تنمية جنوب السودان بعد استقلاله عن الشمال، ولكن خاب فألهم، حيث أنها لم تحسب حساباتها جيداً هذه المرة متغاضية عن الطبيعة الإثنية للجنوب، واضعة فقط الكمية الهائلة التي ينتجها جنوب السودان من النفط بنسبة «70%» من انتاج السودان الكلى وأراضيه المليئة بالثروات المعدنية نصب أعينها، ورعت الحرب بين السودان الجنوب ودعمت الجنوب حتى يصل بر الانفصال، وغابت عنها هذه المرة النظرة الكلية الثاقبة والرؤية الاستراتيجية لمآلات الوضع بعد الانفصال .