مخاضان تعيشهما الأمة العربية والإسلامية، الأول في مصر وتونس يبشر بميلاد طفل معافى وافر الصحة، يولد من رحم ثورة شعبين استردا الوطن من يد مستبد ويد مستعمر خفي. والمخاض الثاني في السودان والذي ولد على إثره طفل معتل الصحة، بعد أن ثبت الاستفتاء الأخير انفصال جنوبه عن شماله، انفصال سيشكل سابقة خطيرة في تحريض الأقاليم الأخرى على المطالبة بالانفصال. هكذا تختطف السودان لتسقط فريسة تحت أنياب مستعمر وصهيوني يعملان من وراء ستار. فرحة وأمل مما يحدث في مصر وما حدث قبله في تونس، وحزن ودمعة على ما يحدث في السودان، البلد العربى الأفريقى الكبير، الذى يمثل قوة اقتصادية وقوة بشرية فى وسط وشرق أفريقيا، ما يؤهله ليشكل ثقلاً عربياً وإسلاميا فى تلك المنطقة. "فرق تسد" تلك هي اللعبة، والسيادة عند كل متربص هدفها واحد، الاغتيال الاقتصادي للأمم من خلال ربط الدول التى تعانى من أزمات اقتصادية بالاقتصاد الأمريكى، مع العمل على السيطرة على الموارد الطبيعية لهذه الدول سعيا لبناء إمبراطورية تسود العالم وتتغذى على دماء الشعوب، اغتيال يورثها السيادة على مقدرات هذه الشعوب. واللعبة لا تستثني بقعة في العالم وأولها العالم العربي والإسلامي، في محاولة دؤوبة لتفتيت عالمنا وتحويله الى دويلات صغيرة متحاربة فيما بينها تحت أي محرك. والسودان واحدة من تلك الدول. إن انفصال الجنوب السوداني بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية هو خطوة على طريق تمزيق السودان إلى كيانات ضعيفة متناحرة، دينياً وعرقياً، بهدف إحكام سيطرتها على البلاد ونهب ثرواتها خصوصا بعد ظهور النفط في الجنوب. وتعد أمريكا السيطرة على السودان خطوة مهمة للهيمنة على قارة افريقيا. يقول سكوت غرايشن، مبعوث أوباما للسلام في السودان، في مقابلة أجرتها معه صحيفة الشرق الأوسط في 2 من كانون الثاني 2010 في سؤال عن اهتمام أمريكا بالسودان على المدى البعيد، قال: (نحن في السودان على المدى البعيد، مثلما نهتم بأفريقيا على المدى البعيد. نحن نفهم أن أفريقيا قارة مهمة جدا، وعندما ترى قضايا أفريقيا، السودان فقط البداية). كما لم يتوان الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» عن التأكيد على «أن الملف السوداني يشكل إحدى أولوياتنا» مهددا من طرف خفي ب «إمكانية سقوط ملايين القتلى»، في حال فشل الاستفتاء، أو اندلاع الحرب بين الشمال والجنوب. وقد اعترف ايزيكيل جاتكوث، ممثل جنوب السودان في واشنطن، لصحيفة (واشنطن تايمز) الأمريكية بذلك فقال: (إن الولاياتالمتحدة تدعم انفصال الجنوب، وتضخ أموالاً كبيرة لتحقيق ذلك، وإنها تقدم دعماً مالياً سنوياً يقدر بمليار دولار؛ تُصرف في إنشاء البنية التحتية، وتدريب رجال الأمن، وتشكيل جيش قادر على حماية المنطقة). أما الدور الصهيوني فقد بدأ بالتسلل "الإسرائيلي" الى دول منابع النيل طمعا في مياهه، وليجد فرصة ذهبية في الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه التي اشتعلت في عام 1955 ليؤجج نيرانها بالتشجيع على التمرد وتدريب ضباط المتمردين وتقديم المساعدات العسكرية بلغت الى حد تقديم العربات المصفحة والمدرعات. لكنه، ورغم الدور الغربي والأمريكي والصهيوني في هذا الانفصال، الا أن التفريط في الحفاظ على وحدة السودان، وغياب الحكم الرشيد في بلد يتسم بتعدد الأعراق والثقافات زرع بذور الفرقة بين هذه الأعراق في الوقت الذي يتوجب على الحاكم الرشيد أن يجتهد في صهر كل تلك الأعراق في بوتقة وطنية واحدة. يقول الدكتور زكى البحيرى، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية آداب بجامعة المنصورة، المتخصص فى الشؤون السودانية والأفريقية: "يرجع السبب فى تغيير الموقف الجنوبى (ويقصد تغيره من رفض للانفصال فى مؤتمر جوبا للإدارة وتقرير وضع جنوب السودان فى 1947 الى الإلحاح في المطالبة بالانفصال اليوم) أيضا إلى الدور الإنجليزى فى السودان، ذلك لأنه خلال الحكم الثنائى، تم إهمال المناطق المتطرفة من البلاد وفى مقدمتها الجنوب والغرب (دارفور) فى جميع برامج التنمية. تركزت مشروعات التنمية فى السودان الأوسط، لأن مشروعات زراعة القطن اللازم لمصانع لانكشير فى إنجلترا والصمغ العربى المطلوب فى بريطانيا وغيرها، كانت تقع فى تلك المناطق الوسطى، ولذلك فإن خطوط السكك الحديدية تركزت فى تلك المناطق ولم تمتد إلى الجنوب أو إلى الغرب، ولما استقل السودان 1956، ظلت للأسف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على ما هى عليه، بما فيها من تهميش الجنوب والغرب والشرق". هذا التهميش وغياب الرشد سلم القوى المستفيدة، وعلى رأسها الغرب والولاياتالمتحدة والكيان الصهيوني، سلمها مقاليد الأمور في السودان لتكرس عوامل هذا الانفصال. مستقبل السودان، كما غيره من مواطن العالم، موضوع لم يبحث اليوم وإنما تم بحثه منذ عقود كما تعكس الغالبية العظمى من التقارير الغربية التي تبحث في مرحلة ما بعد الاستفتاء، من خلال اللجوء إلى أسلوب السيناريوهات متعددة النتائج، والتي بموجبها ستقوم القوى الغربية بالتصرف في الفترة القادمة. هكذا تتحرك الدول العظمى من حولنا، مصالحها هي التي تحركها لا مصالح أفراد، وهي لا تترك شيئا للصدف لأن العنوان الرئيسي لمصالحها وأهدافها الإستراتيجية ثابت لا يتغير بتغير الفريق الحاكم. أما دول العالم الثالث، فإنه محكوم من أنظمة لا ترى أبعد من أسفل أقدامها تبحث عن قوة تسكن في ظلها، متوهمة بأن ذلك يجعلها في مأمن على عروشها، لا تتورع عن دفع إتاوة حمايتها وحماية الفساد الذي ترتع فيه من كرامة شعوبها وسيادة الأوطان التي تحكمها وترضى بالثمن المطلوب منها، حتى لو كان التقوقع داخل مصالحها دون البحث والمراقبة لما يدور حولها وتداعيته على مصالح شعوبها. وينسى هؤلاء أن شعوبهم هي مصدر قوتهم، حتى في ظل ميزان القوى المختل لصالح القوى الإستعمارية لن تلفظهم إذا جد الجد كما تفعل القوى التي يحتمون بها وفي التاريخ عبر لقوم يعقلون! في الختام، أليس من المضحك المبكي أن تؤكد القمة العربية الإفريقية التي عقدت في تشرين الأول من العام الماضي في مدينة سرت الليبية، على «احترام سيادة السودان واستقلاله ووحدة أراضيه، ودعم كامل المساعي الرامية إلى تحقيق السلام في ربوعه". وفي نفس الوقت تدعو الى "الالتزام بتنفيذ بنود اتفاقية السلام الشامل الموقّعة في نيفاشا عام 2005" برعاية شخصية من الرئيس الأمريكي الأسبق سييء الذكر جورج بوش الابن ، بما في ذلك إجراء استفتاء تقرير المصير في جنوب السودان». وكأن جنوب السودان بلد محتل. وأي رسالة نوجهها للجيل الجديد عندما يرحب الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، أكمل الدين إحسان أوغلى، بإعلان النتائج النهائية لاستفتاء تقرير مصير جنوب السودان، مؤكدا التزام منظمة المؤتمر الإسلامي بالوقوف إلى جانب كلا الطرفين. السبيل