نواصل في هذه المساحة سلسلة الحديث عن قطاع الثروة الحيوانية بالبلاد وما يعانيه من تحديات وفرص السودان في تحقيق الأمن الغذائي العربي، من خلال الاستفادة من الميزات النسبية للسودان وغير المتوفرة لغيره من دول العالم والمتمثلة في تنوع السلالات الحيوانية والمراعي الطبيعية المتجددة عاماً بعد عام إلى جانب هذا كله الموقع الجغرافي المتميز للسودان وقربه من المحيط العربي، ومع كل ذلك هناك عقبات كؤود يواجهها هذا القطاع في إطار تنميته وفي مقدمة التحديات كيفية تنمية الموارد الوراثية مع الاحتفاظ بالسلالات المحلية (الوطنية) بعد تأصيلها وتسجيلها كملكية فكرية، حتى تواكب حركة العالم الذي يشهد كل صباح تطوراً تكنولوجياً جديداً لم يسبق له مثيل، كما أن حاجة الإنسان المتزايدة للمنتجات الحيوانية تفرض ضرورة ملحة لإدخال تقانات وتقنيات حديثة وهو ما يطلق عليه هندسة وتحوير الجينات الوراثية للحيوان أو تقنية نقل الأجنة والتلقيح الاصطناعي بهدف إنتاج سلالات محلية للأبقار والأغنام أكثر إنتاجاً للألبان واللحوم وتصبح بديلاً للسلالات الحالية التي تنتج ألباناً بكميات متواضعة وفوق هذا أنها غير لاحمة. وقبل هذا كله نحن بحاجة إلى إقناع المنتج نفسه بأهمية عملية التهجين أو التحوير الوراثي إذا أراد بالفعل الانتفاع من ثرواته الحيوانية اقتصادياً، وهذا لا يعني أن ندخل في عمليات التحوير الوراثي دون ضوابط أو مراعاة لما ينشأ من العملية من أضرار تشمل التنوع الحيواني والسلالات وصحة الإنسان الذي هو المستفيد الأول من هذه الثروات، إذن ونحن نتلمّس هذا الطريق لا بد من الاعتبار ووضع أهمية قصوى لعملية تعريف الحيوان الخاص بنا والذي يميزنا عن غيرنا من العالم وتسجيل سلالاته النادرة وذلك تجنباً للأخطار وإتساقاً مع اللوائح والنظم المعمول بها دولياً والمرسومة في معاهدات وبروتوكولات لحفظ السلالات والأصول الوراثية مع ضمان حقوق المربيين والمجتمعات المحلية المنتجة لهذه الثروات الحيوانية، غير أننا في السودان وبكل أسف إن الحق الضائع هو حق المنتج وأن المنتفعين سواء كانوا تجاراً أو أفراداً أو «شركات» ليس لديهم مساهمات واضحة ومحسوسة في تنمية وتطوير هذا القطاع الحيوي الهام الذي يعاني التقليدية في كل مراحله بدءاً من القاعدة النباتية والمراعي وأوجه القصور الكبير عليها، حيث يظهر هذا بوضوح إذا شهد أحد الأعوام شحاً في الأمطار ولحق ذلك شحاً في الغطاء النباتي، عندها سوف تنفق كميات كبيرة من الثروة الحيوانية بسبب الجوع والمرض ولم يتحسّر عليها أحد بل ربما لا تجد من يدافع عنها في الأسواق الإقليمية والدولية إذا اتهمت بأمراض ليس فيها كجنون البقر مثلاً. السودان وهو يعمل على إنفاذ المبادرة التي أطلقها الرئيس «البشير» ووافقت عليها القمة الاقتصادية والاجتماعية العربية الثالثة التي عقدت بالعاصمة السعودية الرياض وعنيت بتحقيق الأمن الغذائي العربي، مطلع العام 2013، هذه تمثل تحدياً كبيراً يتطلب وضع دراسات جدوى اقتصادية في مجالات الثروة الحيوانية المختلفة وتقديمها للمستثمرين لإستراتيجية شاملة تتنزل برامجها تفصيلاً على المؤسسات والاستفادة من رأس المال العربي والمحلي في تطوير البنية التحتية لقطاع الثروة الحيوانية التي تشمل تأهيل المركز القومي للتلقيح الاصطناعي، والأهم من هذا كله إنشاء مراكز بالولايات سيما التي تتميز بالإنتاج الوفير للثروة الحيوانية في دارفور وكردفان والنيل الأبيض وسنار والبطانة وغيرها من مناطق وبيئات تجمع الثروة الحيوانية التقليدية بتلك الكثافة التي يقابلها أيضاً مستثمر وطني أكثر تقليدية ولم يعرف لمصدري الماشية السودانية عملاً إلا الجشع ولم نعرف عنهم يوماً أن سلك أحدهم مساراً يشجع المنتجين على تنظيم أنفسهم في تجمعات إنتاجية أو عمل على رفع كفاءة هذا المنتج البسيط عبر التأهيل والتوعية والرعاية الصحية البيطرية. حسناً فعلت المملكة العربية السعودية فقد طلبت أن نصدر لها لحوماً مذبوحة ورفضت أي صادرات حيوانية حية وبرغم أنها تحجّجت بظروف خاصة بها مثل شح المياه عندها وتكلفة الأعلاف ورعاية الحيوانات إلا أن الخطوة فيها إيجابية كبيرة أبرزها وضعت المستثمر الوطني أمام تحدٍ تجاه هذا الا ستحقاق أقلاه العمل على إنشاء مصانع ومذابح حديثة في المدن الرئيسة بالبلاد في نيالا والأبيض وسنار والقضارف وهذه غير أنها تعمل على تدوير واستقرار الاقتصاد فهي تعمل كذلك على توظيف كثير من الشباب العاطل بلا عمل وتخرجه من خيباته إلى سوح الإنتاج وإلى تراتيبية متقدمة في سوق الكوادر الماهرة في العمل. قبل عام اطلعت على تجربة رائدة جدًا لوزارة الثروة الحيوانية في مزرعتها التجريبية بالسليت وهي تجربة خاصة بتحسين نسل الماشية والماعز من خلال مزج سلالاتنا المحلية بسلالات من جنوب إفريقيا وكندا، وهي تجربة متقدمة لإنتاج اللحوم والألبان لكن بكل أسف الاستجابة ضعيفة من حكومات الولايات المعنية بنقل التجربة إلى مواطنيها، وكذلك من القطاع الخاص الذي يقع عليه دور أكبر في عملية نهضة وتطوير القطاعات التقليدية، لأن الحكومة ممكن تضع سياسة لتنظيم برنامج حصاد الألبان في الريف مثلاً، أو تطبيق المواصفات وضبط جودة الألبان، لكن لا يمكن أن تعمل مصانع وتنفذ قرارها فإن المعني بذلك المجتمع بكل شرائحه التي على رأسها رأس المال الذي يعمل في هذا القطاع وبكل أسف هو تقليدي أيضاً. لا بد من عمل مشترك بين السلطات الحكومية والمستثمرين لأجل نهضة قطاع الثروة الحيوانية بصورة حقيقية تحقق الهدف الرئيس في سد الفجوة في اللحوم الحمراء والألبان بالدول العربية وبعض إفريقيا، ويهزم التقليدية المقيتة والتي تشمل الإنتاج والتسويق والاستثمار حتى تخلق التماسك بين مصادر ومكونات الاقتصاد السوداني التي تمثل الزراعة والثروة الحيوانية رأس الرمح فيها، ومن ثم كسر المخاوف لدى المستثمر وجعله يقبل على الثروة الحيوانية بطمأنينة وخطوات واثقة على عكس حالة ما يعيشه من مخاوف وبكل صدق نحن فخورون بأننا بلد متنوع الثروات، لكننا حزينون لعدم قدرتنا على زخرفة هذا التميز وجعله عنصراً أساسياً للتغيير نحو الأفضل وبناء صورة مثالية في أذهان سكان العالم لتصبح من بعد مصيدة تجذبهم إلينا لنستفيد من خيرهم وصلاحهم ونتقي خيباتهم وفشلهم.