كثير من القضايا والمشروعات والقوانين مرت من هنا من تحت القبة البرلمانية بتعديل أو بغير تعديل، ولكنها قبل أن تخرج إلى الفضاء الفسيح أخذت صفة الإجازة، أو المصادقة، أو حتى «التصفيق»، وكثير جدًا من التوصيفات التي أطلقها الغاضبون، أو حتى الحلفاء في وجه البرلمان نالت كثيرًا من شرفه، ولكنها أعطته أيضاً قليلاً من حقه وكسبه، والذين قسوا عليه قالوا عنه إنه برلمان بلا أسنان لا يمكن أن يقتلع جزور أزماتنا وفسادنا، وهو مثله مثل أي مؤسسة أو وزارة حكومية. آخرون وصفوه أنه بلا آخر أي أن الذين يتحدثون ويتجادلون داخل قبته ليس من بينهم من يأتي بما لا تشتهي القبة ولا يقبله الحزب الكبير، جميعهم يتحدثون برؤية واحدة، وبفكرة واحدة، ومنطلقات واحدة، وربما لهجة واحدة، ولكن من أخطر التوصيفات التي تقلق الحكومة والمؤتمر الوطني معاً أن يتهم البرلمان بالعجز والضعف في حراكه لاسترداد هيبة الدولة في قرارها وفي حماية حقها العام، أو أن يفشل في أن يكون رقيباً وسلطاناً قوياً على الجهاز التنفيذي حتى لا يَضل أو يُضل. قضايا كثيرة طرحناها هنا على طاولة الدكتور الفاتح عز الدين المنصور رئيس البرلمان الذي جاءت به الأقدار إلى هذا المنصب طرحناها عليه بكل التساؤلات المشروعة وغير البريئة وبلاسقوفات أو تحفظات، ولكنه استدعى كل مهاراته اللغوية والبلاغية والمعرفية، واستخدم الساتر للتصدي على كل الأسئلة بما فيها المفخخة، وكانت كل إجاباته أشبه بالمرافعة لصالح تجربة البرلمان الحالي في أداء مهامه إزاء أمهات القضايا السودانية، بما في ذلك دوره الرقابي والتشريعي، وعلى كل فهذه جرعة أولى مع دكتور الفاتح!. دكتور الفاتح البعض يعتقد أن ما بين البرلمان والمؤتمر الوطني ذابت كل الفواصل وتداخلت المهام والاختصاصات؟ أقول لك بوضوح شديد وبكلمات مغتضبة، أولاً المؤتمر الوطني كان يشكو من قطيعة حقيقية بينه وبين البرلمان. متي كان ذلك تحديدًا؟ منذ زمن طويل كان الناس يتحدثون أن معظم نواب البرلمان من حزب المؤتمر الوطني ويشكلون مرجعية حقيقية للحزب، وكان ينبغي أن يكون هناك ترتيب وثيق وعلاقات دائمة لهذه المرجعية، ولكن واقع الحال لا يقول ذلك، بل أحياناً وفي سنة كاملة لا يرجع النواب كمؤسسة برلمانية إلى الحزب، خصوصاً أن هذا الحزب يعتبر مرجعيتهم الحقيقية التي جاءت بهم إلى البرلمان، ولذلك ليس صحيحاً أننا كبرلمانيين منصهرين جملة في المؤتمر الوطني. ربما مرد هذا الاعتقاد يا دكتور أن ما يحدث في المؤتمر الوطني يبصم عليه النواب بالعشرة داخل قبة البرلمان باستخدام عضويته الميكانيكية؟ هذا أيضاً ليس صحيحاً، العضو البرلماني يا أخي له الحق المطلق في التعبير عن القضايا الوطنية، والتعبير عن قضايا دوائره الجغرافية فيما يمليه عليه ضميره والمصلحة العليا، فقط هناك القضايا «الأمهات» يجب الرجوع فيها إلى المؤتمر الوطني، باعتبارها قضايا مربوطة بالتوجهات والسياسات الكلية، هذا إذا أنا فهمت سؤالك. ولكن الممارسة البرلمانية الحالية ربما تشير إلى أن هناك سقوفات محددة لا يمكن لنواب الوطني تجاوزها داخل البرلمان؟ لا أبدًا وحتى لا تكون الأمور وكأنها مترادفات أو أن الصورة واحدة للممارسة على مستوى الحزب والبرلمان أقول لك إن العضو في البرلمان والمجلس الوطني مجتمعاً له الحق في أن يعبر عن ذاته تعبيرًا مباشرًا دون سقف هنالك فقط مرجعية للمؤتمر الوطني فيما يتعلق بالسياسات ولكن أيضاً هناك فضاء واسع للتعبير. ألا توافق أن برلمانكم هذا ناشط وبشكل أكثر في الشأن السياسي دون مهامه الأساسية في الرقابة والتشريع؟ من المهم جدًا أن نسأل أولاً عن ما هي المسؤوليات «الأمهات» لهذه المؤسسة البرلمانية؟ ونقول هي معنية بالتشريع في المقام الأول وبالرقابة، ومعنية بالمساهمة في وضع السياسات الكلية، ومعنية أيضاً بالتعبئة السياسية، لأن هؤلاء النواب هم أصلا سياسيون وطرحوا أنفسهم على ناخبيهم باعتبارهم سياسيين يمثلون توجهاً معيناً هو المؤتمر الوطني، ولهذا فإن هذه الممارسة تحكمها هذه العلاقات، ولسنا على علاقة مباشرة فيما يتعلق بسياسات الجهاز التنفيذي، وإنما العلاقة هي عبر التمثيل المقدر للحزب في الرافد الثالث، وهو الجهاز التنفيذي. ما هو الجديد الذي بشرتم به الشعب السوداني إزاء دوركم الرقابي على الجهاز التنفيذي؟ نحن قلنا إننا نتوقع منهجاً جديدًا في التعاطي مع الجهاز التنفيذي الذي فيه مكوناً أكبر من المؤتمر الوطني في ظل حرية كاملة، ونريد أن نصل إلى كيف يمكن أن نساهم في وضع السياسات وفق ما أعطانا له الدستور للدفع بروح جديدة ومنهج جديد في صنع السياسات الكلية للدولة، ونحن الآن يوجد حوار بيننا وبين الجهاز التنفيذي لكن يبدو من خلال هذه الممارسة أن نشاطهم التعبوي طاقٍ على أي مهام أخرى. قد يبدو لك ذلك من ظاهر الحال، لكن أقول لك إن البرلمان اطلع بدور كبير جدًا في مهامه الأساسية، حيث أجاز وعدل عشرات القوانين، وأجاز كذلك مئات الاتفاقيات في المجالات الاقتصادية وعلاقات الجوار وغيرها من المشروعات التي أخذت حظها من النقاش والحوار داخل هذا البرلمان، ولكنكم تراجعتم كثيرًا في الجانب الرقابي؟ العمل الرقابي في تقديري متقدم لمس قضايا لم تكن محل اهتمام في الماضي لأن القضايا الوطنية كانت مختلفة، مثلاً قبل نيفاشا وبعدها كانت على الساحة السياسية موضوعات ضاغطة أخذت وقتاً كبيراً من البرلمان في سبيل استكمال الاتفاقية، وكذلك التداعيات التي حدثت في مرحلة الانتقال جعلت البرلمان يهتم كثيرًا بالقضية السياسية من أجل التعبئة العامة. لكن هناك آليات وأذرع سياسية أخرى يمكنها أن تمارس هذا الدور بخلاف البرلمان؟ البرلمان من مسؤولياته المساهمة في التعبئة السياسية. ليست مسؤولية مباشرة؟ لا أبدًا باعتبار أن طبيعة التكوين للبرلمان ومنطلقات هذا التكوين، وكذلك الصفة التي جاء بها عضو البرلمان وهي صفة سياسية تجعله معني بالقضايا الوطنية والسياسية الكبرى وترتيبها حسب الأولويات. والعمل الرقابي يمكن قياسه من جدول أعمال المجلس، ويمكن من ذلك الوصول إلى حقيقة، إلى أي مدى كان العمل الرقابي حاضرًا؟ ولهذا أعتقد أن ما أثير في قبة البرلمان من قضايا رقابية هو الغالب من بين القضايا الأخرى. ولكن يا دكتور كل هؤلاء النواب جاوا إلى هذه القبة عبر برامج ومشروعات خدمية وتنموية كانت هي بمثابة رهان لإقناع القواعد الجماهيرية، ولم يتحدثوا عن سياسة أو تعبئة؟ أعتقد أن أهم قضية مرتبطة بالرقابة هي الموازنة العامة باعتبارها مرتبطة بالتنمية والخدمات، وجزء من مهام البرلمان إجازة هذه الموازنة في موعدها المحدد ومناقشتها بشكل دقيق وعميق عبر اللجان المتخصصة. هناك من يعتقد أن هؤلاء البرلمانيين هم نواب للمؤتمر الوطني أكثر من كونهم نواب للشعب؟ هذه القضية يمكن أن تدفع الناس للدراسة لأن هناك أربعة مستويات للحكم «المحلي والاتحادي والولائي والسلطة الانتقالية في دارفور» وأي سلطة فيها جهاز تشريعي خاص وبكامل الصلاحيات، وما يقوم به البرلمان هو أشبه بالسياسات العامة، ولكن صحيح هناك مشكلات لفهم طبيعة تركيبة هذه المؤسسات وهذا لا يمنع من مراجعة كل نشاط هذه المؤسسات. يعني مراجعة الحكم الفيدرالي؟ هي مراجعة ليس أن ننقض فيها غزلنا، ولكننا نراجعها من أجل كثير من الضبط والأحكام والمهام في كل المستويات، وأنا أعلم أن هناك مجموعات سكانية في دائرة جغرافية محددة طلبوا من نائبهم البرلماني الاتحادي أنهم لا يريدون منه أي دور على مستوى الدائرة فقط، بل يرجون منه واجبات وطنية كبرى. لكن في المقابل كثرت الأصوات الجماهيرية بالمطالبة بالتنمية والخدمات وحسم النزاعات بالولايات، بل ومنهم من حَّمل ممثليهم مسؤولية هذا القصور؟ هذا صحيح، وأنا لا أبرئ الممارسة البرلمانية من هذه القضايا والنزاعات، وهذا أيضاً محل تأمل الآن بالنسبة لنا في سياساتنا العامة وفي المراجعات، وهي قضايا في ظني يحكمها الدستور، وأنا مثلاً ليس لي ولاية على المجلس التشريعي في أي محلية أو أي ولاية إلا إذا اقتضت الضرورة أن أنسق معهم وبصورة تكون مقبولة «رؤية مشتركة مثلاً» ولذلك نحن الآن أخضعنا كل الممارسة إلى مراجعة حقيقية لمعرفة إلى أي مدى هي مستجيبة لأشواق الناس. ما الجديد الذي فعله البرلمان في موازنة «2014م»؟ في هذا العام تمت إجازة الميزانية بشكل سلس، لأن هناك تحضيرات ومفاوضات تمت وفق توجهات وتطلعات ولايات السودان ظلت محل نقاش عميق وكثيف بحضور وزير المالية ورئيس البرلمان والجهات الأخرى المعنية، ولبت الميزانية أشواق الولايات، والجديد أن البرلمان أجرى تعديلات جوهرية في معظم بنود الموازنة وهذا في تقديري قمة العمل الرقابي. كثير من الاتهامات التي توجه للبرلمان أنه مجرد ذراع حكومي لا تتجاوز مهمته حدود المباركة والتأييد لسياسات الجهاز التنفيذي، ما هو المنطق في هذه الاتهامات؟ في ظني أن الرضاء العام عن أداء البرلمان يمكن أن نصفه بالنسبي وليس مطلقاً لأن السقوفات المطلوبة خاصة من المعارضة عالية جدًا، ولكن ليس صحيحاً أن كل ما يأتي إلى البرلمان يتم تمريره، وأنا قلت لك إن الموازنة تم تعديلها وهو تعديل جوهري وأنا شاهد على ذلك، ولذلك لم نبصم على الأمر الذي جاءنا بمثل ما جاء. الحلقة القادمة.. الملفات الحمراء والسوداء للفساد والمفسدين!.. فقه السُترة كيف تعامل به البرلمان؟ هل صحيح أن هناك فساداً في الحركة الإسلامية؟ إلى أي مدى أعلى البرلمان من قيمة دوره الرقابي؟ هذا السؤال أعفيني منه!.