للمرة الثالثة تأجلت زيارة نائب رئيس الجمهورية الأستاذ علي عثمان محمد طه للقاهرة، وسط تساؤلات وتكهنات بعضها يميل للإثارة والبعض الآخر يبحث عن الحقيقة والأسباب الموضوعية لتأجيلها ثلاث مرات... الأمر الذي أثار علامات استفهام موضوعية ومشروعة خاصة في هذا التوقيت الحساس.. لكن يظل السؤال الجوهري الذي يثور بقوة ويفرض نفسه بشدة: لماذا تأجلت الزيارة ثلاث مرات؟ ويمكن طرح أسئلة أخرى: هل صحيح أن الاضطرابات السياسية في مصر كانت السبب المباشر كما أعلن في مصر لتأجيل الزيارة؟! وهل صحيح أن من الأسباب الأساسية أيضاً توفير وقت أكبر للوزراء ولجان المتابعة للتباحث من أجل إنجاح الزيارة؟ وممن جاءت مبادرة التأجيل، طه أم شرف؟ وما علاقة تأجيل زيارة طه بوجود الترابي هناك؟ وهل صحيح أن من الأسباب عدم وجود سفير سوداني بمصر حالياً بعد مغادرة عبد الرحمن سر الختم للخرطوم لانتهاء فترته؟.. كل هذه الأسئلة وأخرى يطرحها الشارع السياسي السوداني بإلحاح، ويبحث عن إجابات منطقية وموضوعية تعززها قرائن الأحوال ويسندها المنطق. مؤشرات ومعطيات وللإجابة على الأسئلة المطروحة في المسرح السياسي، يمكن استدعاء عدة مؤشرات ومعطيات يمكن من خلالها تفسير ما حدث، خاصة أن التأجيل تكرر لثلاث مرات دون ذكر أسباب منطقية، وذلك على النحو التالي: الأوضاع الأمنية في مصر أولاً: أما ما يتعلق بالاضطرابات السياسية التي تشهدها مصر، فالمنطق والمبرر هنا يبدوان ضعيفين، حيث أن الأوضاع السياسية في مصر لم تكن حدثاً مفاجئاً، فهي حالة موجودة منذ الخامس من يناير الماضي، حيث لم يتوقف الشارع المصري عن المظاهرات والاحتجاجات والمطالبات والاضطرابات، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإن زيارة الترابي الحالية لمصر وجولاته المتعددة في مناطق مختلفة هناك بما في ذلك ميدان التحرير ولقاؤه بالثوار هناك، هذا كله يؤكد أن الأوضاع لم تكن بالحرج والخطورة التي تمنع زيارة علي عثمان للقاهرة، وإلا لمنعت هذه الظروف والأوضاع زيارة الترابي، خاصة أن الرجل مثير للجدل السياسي والفقهي على حد سواء. تبرير أضعف ثانيا: أما أن التأجيل جاء لإفساح قدر كبير من الوقت للوزراء ولجان المتابعة للمباحثات، فيبدو هذا التبرير ضعيفاً أيضاً، حيث أن هذه المسائل والترتيبات تتم منذ وقت مبكر قبل تحديد الزيارة في أحيانٍ كثيرة، حيث أن تحديد الزيارة يتم عادةً منذ وقت مبكر، وفيه متسع على نحو يسمح بمناقشة كل القضايا حسب الجدول المدرج للزيارة، لا أن يتم تأجيل الزيارة بحجة منح مزيد من الوقت، حيث زيارات المسؤولين الكبار في الغالب لا تؤجل عن موعدها إلا لظروف أمنية أو نشوب أزمة دبلوماسية طارئة، أو خلافات سياسية تنشأ بعد تحديد الزيارة، أو ما إلى ذلك من الأسباب المعروفة. زيارة الترابي وبإلقاء نظرة فاحصة تأخذ في الاعتبار كل المعطيات والمؤشرات المتعلقة بزيارة الدكتور حسن الترابي لمصر، يمكن رصد عدد من الملاحظات والمؤشرات التي تبدو هي الأقوى والأرجح لأن تكون سبباً في تأجيل زيارة علي عثمان للقاهرة، وذلك على النحو التالي: 1 - بات واضحاً أن علي عثمان تفاجأ بزيارة الترابي للقاهرة في هذا التوقيت تحديداً، ومعلوم أن حجم الخصومة بين الرجلين هي الأكبر على الإطلاق - على مستوى الخصومة السياسية بين الإسلاميين، ويبدو أن طه يريد تحاشى وجود الترابي هناك، ولا يريد الاصطدام به. 2 - بعد وصول الترابي للقاهرة طفق يتحدث بشدة عن محاولة اغتيال مبارك، وتورط مسؤولين كبار في النظام كان قد رفض مبارك استقبالهم، وهؤلاء بالطبع معروفون، مما يعني أن الترابي بقصد أو بدونه عكَّر الأجواء السياسية التي تشكل مناخاً لزيارة طه. 3 - تحدث الترابي بإسهاب عن فشل تجربة الإسلاميين في السودان، وكيف أن السلطة فتنتهم وأفشلت مشروعهم، فهذه التصريحات أثناء اللقاءات مع الإخوان المسلمين والأحزاب السياسية المصرية وخارجها لغمت طريق طه، وأقامت عليه كثيراً من العثرات التي تحتاج إلى إقالة وإزالة من أمام طريق علي عثمان، وهذا يحتاج إلى وقت، خاصة أن ما علق بالأذهان بسبب أحاديث الترابي عن الحاكمين المفتونين بالسلطة في السودان، يحتاج إلى وقت لمحوه بشكل أو بآخر. 4 - صرَّح كمال عمر بأن زيارة طه لمصر بغرض التشويش على زيارة الترابي، كما أكد رفض حزبه أية وساطة تمهد لحوار ثنائي مع «الوطني»، وأن الهدف هو إسقاط النظام فقط، وفي ذلك تأكيد على قطع الطريق أمام محاولة «الإخوان» في مصر تسوية الصراع بين الإسلاميين في السودان، وكل ذلك يؤكد حدة الاستقطاب بين معسكري القصر والمنشية على أرض «الكنانة»، ولعل ذلك كفيل بدفع طه إلى تأجيل زيارته لمصر. تمويه جاء في الأخبار الرسمية أن طه تلقى مكالمة من شرف، ربما ليوحي الخبر بأن الأخير هو الذي طلب تأجيل الزيارة بحجة الاضطرابات السياسية في مصر، وربما للإيحاء بأن التأجيل جاء فعلاً بسبب الوضع الأمني، ولا علاقة له بزيارة الترابي وتصريحات الأمين السياسي لحزبه، لأنه إذا كان الأمر بسبب زيارة الترابي فمن المنطق أن يكون طه هو الذي طلب التأجيل.