يبدو أن زيارة د. حسن عبد الله الترابي إلى قاهرة المعز بعد (23) عاما من الغياب بفضل السياسات التي انتهجها النظام المصري السابق جراء منعه من الدخول إليها ووضعه في القوائم السوداء، قد عجلت بنسف زيارة نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه الذي تزامنت رحلته مع وصول زعيم الحركة الإسلامية بالسودان والأمين العام للمؤتمر الشعبي د. الترابي.. ووفقا لمعلومات تحصلت عليها (الأخبار) فإن نائب رئيس الجمهورية رفض زيارة مصر وشيخه السابق موجود فيها مما دفعه إلى تأجيل الزيارة إلى وقت لاحق، غير أن معلومات أخرى تشير إلى أن طه لا يرغب في مقابلة الترابي هناك خوفا من الشبهات التي يمكن أن تنسج خيوطها انطلاقا من ذكريات الماضي، واتهام مصر لنظام الخرطوم في تسعينيات القرن الماضي بتدابير محاولة اغتيال رئيسها المخلوع حسني مبارك، وكان حينها الترابي هو في كابينة قيادة الإنقاذ و"طه" تلميذه المحبب. وعلى الرغم من المفاجأة التي أحدثتها الجماعة الإسلامية بمصر الأسبوع الماضي حين أعلنت أنها هي التي حاولت اغتيال الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك، وكأنها أرادت بذلك أن تخفف عبء المخاوف من الرجلين وهما يخططان لزيارة القاهرة بعد تغيرات كثيرة شهدتها مصر، إلا أنه، حسب مراقبين، ربما لم تنجح تلك الاعترافات كثيرا في كسر حاجز التكهنات.. فمقربون من طه يقولون إن الرجل أبدى عدم رغبته بأي حال أن تربط زيارته إلى مصر بوجود الترابي هناك لجهة الخلاف المعروف بين الرجلين عقب المفاصلة الشهيرة للإسلاميين بالسودان، والتي اختار فيها طه الانضمام إلى زمرة "القصر" تاركا "منشية" شيخه ليطل الخلاف بين الرجلين منذ ذلك الحين.. فالترابي لم يزر القاهرة منذ (23) عاما، أي منذ العام 1988م الذي شهد آخر زيارة له إلى هناك بصفته في ذاك الوقت أمينا عاما للجبهة الإسلامية القومية للمشاركة في مؤتمر السنة النبوية الذي عقده الأزهر الشريف وكانت هي الزيارة الثالثة، ثم تلتها رابعة وأخيرة في نفس العام بدعوة من الحزب الوطني الديمقراطي، وكانت الحالتان الأولتان إبان توليه منصب مساعد رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية، على عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري للمشاركة في جلسات برلمان "وادي النيل" الذي ضمَّ نوابا من مجلس الشعب المصري وآخرين من مجلس الشعب السوداني في إطار ما عُرف باتفاقية التكامل. لكن يبدو أن الترابي بعد أن تنسمت مصر عبير الديمقراطية وشربت "الحركة الإسلامية هناك والمتمثلة في الأخوان المسلمون كأس الحرية وخرجت من إغلاق الكبت الذي مارسه عليها نظام مبارك" يريد أن يكون هناك.. وفي مقارنة بين حالتي طه والترابي نجد أن الأخير وإن كانت زيارته السابقة لمصر جاءت مقيدة بمنصب سيادي في حكومة موسومة بكل أثقال وعيوب "حكم الفرد" وضمن معادلة هشَّة بالغة الحساسية بين حركة إسلامية شابة ناهضة يقوم عليها زعيم ذو كاريزما كبيرة، وبين نظام أوتوقراطي يقوم عليه رئيس شديد الغيرة والخوف على سلطته المطلقة، فإن زيارته الحالية تأتي وهو غير مقيد سوى بمنصبه أمينا عاما لحزب يصنف معارضا بالخرطوم.. بينما موقف تلميذه ونائب رئيس الجمهورية يختلف تماما عن موقفه، لذا فإن طه وبالرغم من أن رحلته بُرمجت منذ وقت طويل في إطار العلاقات الجديدة بين نظامي "الخرطوم" و"القاهرة" إلا أنه وحينما علم بأن "الترابي" سيحل على أرض الكنانة في ذات التوقيت سارع بإلغاء رحلته لحين عودة الأخير من هناك وترتيب موعد جديد للزيارة، التي كان متوقعا أن يلتقي خلالها طه برئيس الوزراء المصري د. عصام شرف ردا للزيارة التي قام بها الأخير إلى الخرطوم، وفي إطار تسريع تطوير الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين. يرى القيادي بحزب المؤتمر الشعبي المحبوب عبد السلام أن زيارة "الترابي" إلى القاهرة تأتي في إطار أن تكون العلاقة طيبة بين الساحة السياسية السودانية بمختلف أحزابها وأطيافها السياسية وبين مصر، وهذا ليس على المستوى الرسمي فقط، لكن على المستوى الشعبي أيضا، لأن الجغرافيا والتاريخ وضعا السودان في قلب مصر، كما وضعا مصر في قلب السودان، وقال محبوب: نحن الآن لا نطبّع العلاقات مع مصر بقدر ما نعود بالعلاقات بين مصر وحزب المؤتمر الشعبي إلى طبيعتها، نافيا أن تكون لأهداف خاصة بل تحقيق مجموعة من الأهداف العامة والخاصة، وليست الزيارة هي التحوّل الدراماتيكي في العلاقات المصرية مع حزب المؤتمر الشعبي، لكن تأتي في إطار التطوّر الطبيعي للأحداث. فيما يذهب أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجامعات السودانية د. صلاح الدين الدومة ل(الأخبار) إلى أن تأجيل زيارة طه إلى القاهرة لجهة أن زعيم الحركة الإسلامية السودانية د. الترابي يزورها في ذات التوقيت يأتي خوفا من "التهميش" الذي يتوقعه طه من قبل المصريين حين يكون الزائر الآخر هو د. الترابي، لجهة أنه سيستأثر بالنصيب الوافر من اهتمام الأحزاب والفعاليات المصرية خاصة وأن للرجل مكانة خاصة وسط الإخوان المصريين بمصر وسواها. ويمضي الدومة إلى أن الترابي كثيرا ما سبب للحكومة حرجا عند زيارة شيوخ الحركة الإسلامية بالوطن العربي والعالم الإسلامي للسودان حينما حاولت الحكومة مرارا وتكرارا تهميش الترابي ومنع الزيارة عنه وهو في المعتقل، لكن كثيرا ما كان يطلب قادة الحركة الإسلامية بالعالم عند مجيئهم للخرطوم زيارته وعند منعهم يقومون بزيارة دار الحزب وأسرة الترابي، وهذا ما سبب حرجا في كثير من المرات للحكومة، بل ذهب الدومة إلى أبعد من ذلك عندما ضرب مثلا مفاده أن معادلة الشيخ والحوار لا تتغير في كثير من الأحيان، فمهما حدث فإن تلك القاعدة لن تتغير في إشارة إلى مكانة الترابي وسط الإسلاميين بالعالم. وأضاف الدومة: إن كان طه ألغى زيارته بسبب اتهامات الماضي باغتيال الرئيس المخلوع حسني مبارك فإن الترابي وفق ما صدر قد تمت تبرئته من تهمة التخطيط لاغتياله، بل وأشارت الاتهامات صراحة إلى نظام الخرطوم الحالي في تدبير تلك الحادثة. في الوقت ذاته رفض مراقبون الربط بين إلغاء طه زيارته إلى القاهرة بحلول "شيخه" ضيفا عليها، وأجمعوا في حديثهم ل(الأخبار) على أن هناك أسبابا أخرى هي التي قادت طه لإلغاء رحلته المعلنة، خاصة وأن طه لن يتعرض للتهميش، لجهة أن استقباله يتم وفق البرتوكولات الرسمية التي لا تسمح بذلك، بل وحتى الجهات الأخرى غير الرسمية لن تفعل ذلك في إطار العلاقات الجديدة بين مصر والسودان التي بنيت على عدم التفرقة بين القوى السياسية السودانية. وعموما تبقى أسباب قيام رحلة وإلغاء أخرى طي الكتمان، لحين كشف أصحابها بأنفسهم عن الأسباب. الاخبار