رحلة إلى شرق السودان تعدل ألف رحلة فيما سواها بمعيار طبيعة المنطقة وتأريخها وجمالها وموروثها الثقافي والاجتماعي كانت البداية «قضروف ود سعد» ولاية القضارف أرض الخير وسلة غذاء السودان، فقد طفت فى تخومها مع وفد وزير الطرق والجسور المهندس عبد الوهاب محمد عثمان، جُبتها من أقصى غربها عند المدخل فى تفتيش الخيارى إلى أقصاها الجنوبي محليات باسوندا وشرق وغرب القلابات وكساب عبر الطريق القاري «القضارف دوكا القلابات» الرابط بين السودان وإثيوبيا عند مدينة المتمة الحبشية والذي يمر بمناطق الإنتاج الزراعي والمعدلات العالية للأمطار التي شهدت انتقالاً وتحولاً وتطورًا في العملية الزراعية وتوطين التقانة والتركيبة المحصولية حيث شاهدنا زهرة الشمس قد زرعت بمساحات كبيرة في منطقة دوكا والقلابات بصورة أظهرت نجاحها.. أمطار خريف هذا العام تبدو ضعيفة خاصة في شمال وشرق القضارف وجزء من مشاريع الفشقة... ومنطقة الفشقة تتميز بخصوصية أخرى هي أنها نقطة تحادد الجارة إثيوبيا حيث يربط بينهما الطريق القاري «الشوك اللكدي الحمرة» وهو مسار حيوي وإستراتيجي يأتي في سياق التكامل الاقتصادي والسياسي والأمني بين دول الجوار الإفريقى التي يربط بينها جدار اجتماعي وثقافي راسخ ومتين..سمسم القضارف.. غاب من بعد طلوع اللافت في ولاية القضارف أن المشروعات الزراعية قد بدت عليها آثار الشيخوخة والكبر مما يتطلب أن تقوم الجهات المختصة بعمل صيانات وتطهير لكل القنوات والترع ومناطق الزراعة المطرية حتى تقوم بدوها على الوجه الأكمل في تأمين غذاء السودان لأن ما ثبت في ذاكرة الأجيال أن القضارف بيئة لزراعة الذرة والسمسم والفول السوداني وعيش الريف ولابد من المحافظة على تاريخ المنطقة وموقعها في خارطة الإنتاج السوداني، لاحظت إصراراً وجهداً من المشتغلين بهذا الحقل من المواطنين على المضي على هذا النهج، ودخلت في الأيام الأخيرة خطط وبرامج مشروع النهضة الزراعية وهو المعوَّل عليه في إحداث النقلة التقنية والمكنيكية للزراعية بشقيها في السودان ومن ثم الحيوان الذي تمثل تربيته خطاً ملازماً للزراعة.. ولاية القضارف تتمتع بجمال طبيعي يبرز بجلاء في إنسانها وسمر البطانة وطيبة قلع النحل كما أن للقضارف جمالاً مصنوعاً يتجلى في شكل البيوت وهي مبنية بطرازها الرائع حيث برع الناس ونسبة لطبيعة المنطقة برعوا في صناعة وتشييد بيوتهم بقش البوص ذلك النبات الذي أضفى جمالاً بطعم ولون آخر على شكل المدن والأرياف.. كسلا.. مدينة الجمال والأضرحة نزلنا كسلا الوريفة وكانت هي هي ما زالت بجمالها وتلالها «القاش وتوتيل».. وكسلا عند الكثيرين مدينة ملهمة وذات عبق وذكريات.. الميرغنية ما زالت بيوت الجالوص تقف تتحدى عوامل الزمن وتقول: أنا التي أخرِّج قيادات سياسية وعسكرية وإعلامية وأدبية فالميرغنية يكفيها ضريح سيدي الحسن وهي الرحم الذي أنجب آل عروة وإسحق الحلنقي لكنها للأسف مازالت بائسة وخدماتها رديئة وشوارعها أسوأ، الحال في الحي الذي رأيت يقف متسائلاً أين جهودكم يا سعادة اللواء الفاتح عروة وبقية أبناء كسلا الوريفة؟؟ ولاية كسلا في شكلها العام تشهد تحولات تنموية كبيرة مثلها مثل بقية الشرق عامة وهي تكاد تكون الولاية الوحيدة في السودان التي رُبطت كل محلياتها السبع بطرق مسفلتة وتربطها صلات طيبة مع إريتريا التي تبعد حدودها من مدينة كسلا «26» كلم وموصلة معها بطريق معبَّد وهو طريق كسلا اللفة الذي وصلناه وعند حضورنا وجدنا مدير جهاز الأمن والمخابرات بولاية كسلا العقيد الطاهر الحاج وهو يستقبل جنرالاً في المخابرات الإريترية في مشهد ينم عن روح التعاون والتنسيق الأمني والإستراتيجي بين البلدين اللذين تجمع بينهما أواصر شتى.. التنسيق الأمني بلغ أقصى مداه حسب العقيد/ الطاهر لدرجة تبادل المتهمين الذين يتجاوزون الحدود هنا وهناك، وتبادل المعلومات والخبرات بين البلدين، وتأمين مصالح البلدين الاقتصادية والسياسية.. كسلا انتظمتها ثورة طرق قومية عبرت مناطق مهمة لكنها أهملت مؤخراً أهمها طريق «كسلا كركون تلكوك همشكوريب» بطول 170 كلم ويضم أضخم كبري وهو كبري القاش الذي يمثل مساراً هامًا لمنطقة كانت تعاني العزلة في الخريف، أهمية هذا الطريق هو أنه يعيد الحياة لمشاريع «الجمام» الرائدة الواقعة ما بين كسلا ومكلي في مناطق «كركون ووقر» على طول ضفتي القاش وهي مشاريع هجرها الناس وغطّت مساحاتها أشجار المسكيت وتمدد فيها نبات العشر وقد تدمرت كل التفاتيش الزراعية وعشعش عليها البوم والعنكبوت لكنها اليوم وبعد أن وصلها الطريق والكهرباء القومية من سد مروي يتوقع ارتفاع سعر الأرض فقط هي بحاجة إلى إعادة تأهيل وقطع أشجار المسكيت وتطهير تلك الترع المدمرة.. هنا نتساءل: أين صندوق إعمار الشرق؟! الواقع يقول إن الزراعة بكل أنواعها وحدها جديرة بإعادة الريادة للشرق ولابد من الاهتمام بالزراعة البستانية في غرب القاش والسواقي الشمالية والجنوبية التي هي الأخرى تشهد تراجعاً بدلاً من أن تنهض وتتقدم.. اليوم قد توفرت الإرادة والمعينات والبنية التحتية.. صندوق تنمية الشرق.. الموطن يسأل ولا يوجد من يجيب ما أحسسته في رحلة الشرق والتجوال في عمق بلاد الأدروبات هو عدم رضا الناس هناك عن صندوق الإعمار وطريقته في رسم الأولويات، لكن إنسان الشرق بطبيعته السكوت قد تحفّظ على كثير من القضايا الأخرى رغم أنه لم يتمكن من إخفاء فرحه وسعادته بما تشهده المنطقة من تنمية وإعمار.. في همشكوريب كان الأمل والاهتمام بأهل القرآن فقد وصلها طريق «قدماي همشكوريب» بطول «81» كلم ورأيت كيف شيد ذلك الكبري عند وادي «همبروب» حيث أشجار الدوم فوصلها بالطريق القومي بورتسودانكسلا وشيدت فيها أكبر مستشفى فقد حكى لي أحمد محمد بيتاي معتمد همشكوريب وشقيقه الشيخ علي محمد بيتاي شيخ الخلاوي حكوا قصة معاناة المنطقة في السابق وكيف أن الإنقاذ قد اهتمت بها وبأهل القرآن وقالوا إن من ثمرات الطريق أن جاءتهم إدارة جامعة أمدرمان الإسلامية ومنحت حَفَظَة القرآن شهادات البكلاريوس وكذلك زارتهم بعثات من نيجيريا وتشاد وجنوب إفريقيا والمغرب والنيجر وكل بقاع العالم وشهدوا على نموذج الخلوة التي تضم الآن «7000» طالب قرآن ويقطنها اليوم «750» حافظ قرآن.. سد أعالي عطبرة وستيت هو مشروع النهضة الحقيقي وهو الملمح الذي يُنتظر أن يغير وجه الحياة بشرق السودان كما أنه وبحجمه الذي رأيت قد فتح أمام مخيلتي كيف هو المستقبل واعد لإنسان الشرق.. سد أعالي عطبرة وستيت حال اكتماله سيعمل على حجز مياه نهري عطبرة وستيت التي ظلت تروح هدراً في الماضي وسيُحدث استقراراً في الاقتصاد ويُسهم في زيادة الرقعة الزراعية وتوطين التقانة الزراعية. بورتسودان.. درة الشرق الموانئ البحرية وما تشهده من توسع في بورتسودان وسواكن هي الأخرى تبعث الضمأنينة أكثر بأن اقتصاد السودان بخير .. في بورتسودان الشتاء وموسم المطر قد بدأت ملامحهما تطل وفيها كل شيء ممكن ومفيد وأن حكومتها قد صنعت العجب في المدينة وشوارعها، فقد اجتهد إيلا ومعاونوه في إعادة ترسيم المدينة حيث اقترح موقعاً جديداً لطريق الشاحنات من السوق الشعبي إلى بداية شارع الأربعين، ثم طُفنا شوارع سلالاب والطريق الفاصل بين مربعات «7» و«8» حتى الطريق الساحلي جنوب حي أم القرى وشمالاً حتى حي القادسية وشرقاً حتى سلبونا ومنها زرنا الميناء الشمالي على طريق مصر «الطريق الساحلى». لم تقف مجهودات إيلا في الشوارع لكن رأيت كيف شيد مجمعات للحرفيين وصنع المتنزهات بورتسودان سنتر لؤلؤة الثغر بلغ الإبداع مداه حينما شيد طريقاً دائرياً من صينية سلالاب ليربط مع منتزه السي لاند.. على كل فإن البحر الأحمر جماله مكمل في بورتسودان، نأمل أن يكون ما شاهدناه في بورتسودان قد حظيت به مدن الولاية الأخرى وأريافها وألاّ يكون الاجتهاد محصورًا في رئاسة الولاية وإهمال الريف وهو الأولى بالنهضة والتنمية كما أن ثمة ملاحظات قد بدأت في العشوائية في تشييد بعض الطرق دون الأخد في الاعتبار جغرافية المنطقة والخريطة الكنتورية مما يُتوقع أن يتسبب في مشكلات غرق وغيرها خاصة المؤسسات التي حولت غرباً تجاه المطار مثل المنطقة الصناعية التي تقع على مسار المياه المتدفقة من الجبال الغربية نحو الشرق لتصب في البحر وكذلك الطرق، هذه بحاجة إلى مراجعة حقيقية حتى لا يقع الفأس في الرأس.. رحلة شرق السودان فتحت أمامي طموحات كثيرة ولعلها حاضرة في ذهن أي مواطن شرقاوي وهي أن المنطقة زاخرة بعوامل النهضة والتنمية على رأسها السياحة على الساحل ثم منطقة أركويت بكل جمالها الطبيعي ومناخها الخلاب وفي السابق اتخذها الخواجات وطناً وأقاموا فيها المطارات التي استفاد منها نظام نميري البائد في ترحيل الفلاشة إلى إسرائيل.. أركويت هذه بحاجة إلى نظر حتى يستفاد منها أكثر مما هي عليه الآن وتأخذ مكانها الطبيعي في خريطة السياحة في السودان ..