** جدتي لم تكن تعلم أنها تقوم بتنفيذ جزء من بنود «بروتوكولات حكماء صهيون» عندما أصرّت أن تناديني ومنذ الشهر الأول من عمري ب «دكتور مؤمن»!! بل أستطيع الرهان على أنها لم تكن تعرف أين يكمن الفرق بين كلمتي «هرتزل» و«بطيخ».. ولكنها برغم ذلك ليست الجدة الوحيدة المسؤولة عن رسم السياسة العربية، بل إن معظم جداتنا الموقرات يتحملن مسؤوليتهنّ، بذات القدر، عن الفشل الذريع الذي وقع فيه الأبناء والأحفاد، «فالجدعان» العرب كلهم بدون فرز كانوا «دكاترة» من عمر يوم واحد وحتى سن العشرين، ثم يحدث الفراق البائن بين اللقب وبين حامله، إن لم يكن فرقاً شكلياً فهو معنوي، إذ إن بعضهم يحصل على اللقب، شكلاً، فتحتفل الدنيا من المحيط إلى الخليج. ولكن يكون تاريخ حصوله على اللقب هو تاريخ وفاته ككائن صانع للحضارة الإنسانية، وتاريخ ميلاده كمستهلك مواظب، وتلميذ وفي، لكل معطيات حضارة الغرب، وكصاحب «فخامة» مرتقب!! فالجدة الطيبة لا يسعفها ما تعلمته عن جداتها السابقات، إلاّ لممارسة التفكير في حدود مسؤوليات ربة البيت التي يهمها في المقام الأول توفر قدر كافٍ من الطعام الفاخر والعز!! أما مفهوم هذا «العز» فأدب أجدادها المملوء بقصص السلاطين والتجار، بدءاً بهارون الرشيد و«ذهب المعز» وألف ليلة وليلة، والسندباد... إلخ.. كل هذا جعل كلمة «العز» اسماً آخر للذهب، فلم يجد الصهاينة، عندما جاءوا أخيراً عناء كبيرًا في اقناعها جدتنا الفاضلة بأن الأبناء إنما يتعلمون في المدارس ليصبحوا «دكاترة» فينهمر عليهم المال والعز ولا شيء بعد ذلك. ** سأل صديق لي «دكتور»، زار بلاد الفرنجة، عشرة من تلاميذ المدارس في بلد أوربي عن أحلام مستقبلهم فخيبوا آماله جميعاً، إذ لم يجد بينهم واحداً أعدته العائلة ليصبح دكتوراً «طبيباً» أو مهندساً بل اختاروا جميعهم ألقابًا تافهة.. خبير جيولوجيا، فيزيائياً، خبيراً في الفلك، كيميائياً، مهندساً في الالكترونيات، أو في الميكانيكا.. واحد فقط قال إنه يفضل أن يكون طبيباً «وليس دكتوراً». ولهذا السبب وحده نبحث اليوم بين الأوروبيين عن «صاحب فخامة» واحد فلا نجده!! فيتأكد لدينا أن الله سبحانه خص أرض العرب وحدها بالنفط والفخامة!! تبحث عن ماء فتجد نفطاً، وتبحث عن علم فتجد فخامة، وأكرمنا الله بأن سخر لنا أولئك الأوربيين الذين لا يفقهون شيئاً سوى «العلم» فاكتشفوا لنا نفطنا، واكتشفوا لنا فخامتنا، ولكننا سخرنا منهم وأعطيناهم أهون الثروتين: النفط.. واحتفظنا لأنفسنا ولأجيالنا القادمة بكل المكتشف من احتياطي الفخامة، ولهذا تفوقنا عليهم.. اصبحنا «دكاترة» بالميلاد، وتركناهم ينالونها «بالتجنس». حكاية: ** كان في قديم الزمان مؤسسة حكومية كبيرة.. وكان فيها موظف طيب يخاف الله ويحب الناس ويحمل هم أولاده السبعة، كان نحيفاً للغاية وملابسه لا تحس بتغير في أوضاعها عندما تتحول من «الشماعة» إلى كتفيه.. وكان الناس يشيرون إلى نحافته كدليل مادي على عظم ما يحمله من همّ الأولاد. ** ثم.. حدث في يوم عادي جداً، أن جاءت «ترقية استثنائية» هائلة لهذا الموظف حملته إلى كرسي المدير.. ففرح الناس، وخطب المدير الجديد في رعاياه الذين يعدون بالآلاف.. حمد الله واستعاذ به من فتنة السلطان، واستعان به على حمل هذه المسؤولية الثقيلة.. وبكى وهو يقول لموظفيه: - ها أنذا وقد أصبحت جلداً على عظم، من جراء مسؤولية سبعة أبناء فقط، فكيف أحمل مسؤولية سبعة آلاف؟ فبكى معه الحاضرون.. ** ثم مرّ الزمن.. ونسي الجميع الأمر، ما عدا موظف واحد، طيب يخاف الله.. ظل يتذكر تلك الخطبة كلما رأى سيادة المدير نازلاً من سيارته وهو يشكو من «الرطوبة» وأمراض القلب، ويمشي متدحرجاً على الارض ويفتح باب مكتبه على مصراعيه حتى يتمكن من الدخول. إفادة أخيرة: سُئل مؤمن «رض» عن نواقض العروبة الثلاثة، فقال: «مدامة بلا شارب، وسلامة بلا طالب، وفخامة بلا صاحب» أو كما قال، رضي الله عنه.