إن الخطاب الشهير الذي ألقاه المشير عمر البشير رئيس الجمهورية ورئيس حزب المؤتمر الوطني بقاعة الصداقة واستغرق أكثر من خمس وأربعين دقيقة وتم تفسيره وشرحه بعد عدة أيام، كانت الشكليات التي أحيطت به قد طغت على الاهتمام بمضمونه، فكان التركيز على من حضروا اللقاء وجلسوا في الصف الأول، وما صحب ذلك وأعقبه من ابتسامات وضحكات متبادلة هو محط التركيز والاهتمام، وأشيع جو من الأمل ينبئ بأن انفراجاً سيحدث، وظل الجميع في حالة انتظار وترقب وتوقع. إن كابينة القيادة العليا للدولة حدثت فيها إعفاءات ومفارقة سعى الطرفان لإخراجها من حيث الشكل بصورة تبدو عادية رغم أنها في حقيقة أمرها أنهت احتقانات مكبوتة فجرها الشد والجذب والحديث المبكر عن اختيار مرشح الحزب الحاكم لمنصب رئيس الجمهورية في الانتخابات القادمة في عام 2015م، وحسمت تلك القرارات المعركة مبكراً بالضربة القاضية. وبعد حسم المسائل الداخلية في الحزب الحاكم على المستوى القيادي بدأت مرحلة أخرى بمحاولة استقطاب الآخرين بمد جسور الوصل معهم ومحاورة كل منهم على انفراد، توطئة لعقد مائدة مستديرة أو ملتقى جامع، وقد أدى هذا لحدوث خلافات وملاسنات بين بعض مكونات تحالف أحزاب المعارضة الذي يجمع خليطاً متشاكساً متناقضاً لا يجمع بين مكوناته إلا قاسم مشترك واحد هو السعي لإسقاط النظام الحاكم، وأحدث الحديث عن الحوار مع النظام الحاكم شداً وجذباً داخل بعض الأحزاب، ولا أريد الخوض في التفاصيل لأن كل شيء أضحى كتاباً مفتوحاً. وحدثت مهادنة بين الأحزاب المعارضة المتنافرة، وتركوا هامشاً للمناورة والإبقاء على خط رجعة إذا وصلت الحوارات المنتظرة لطريق مسدود. أما الحركات المتمردة الحاملة للسلاح فمازالت تراوح مكانها وهي تؤدي خدمة كبيرة للخواجات الذين يمولونها ويعولون عليها كأحد العوامل المساهمة لإسقاط النظام إذا لم تستطع تهجينه وتدجينه وتشكيله واختيار قياداته وفق هواها، وهي تضع آمالاً عراضاً على قطاع الشمال وتراهن عليه ليحدث خلخلة داخل النظام الحاكم بفرض تطبيق مشروع السودان الجديد العلماني، وهي تدرك أن هذا القطاع إذا خاض الانتخابات العامة فإنه لن يحصل على شيء يذكر، وسيتضح للجميع أن وزنه أقل من وزن الريشة، ولذلك أنها كانت ومازالت تسعى لإرغام النظام الحاكم ليوقع معه اتفاقية مماثلة لاتفاقية نيفاشا يكون بموجبها شريكاً في الحكم في مرحلة انتقالية تمتد لعدة سنوات قابلة للزيادة. وصرح أحد الأمريكان النافذين بأنهم يراقبون ما يجري في السودان وينتظرون ما ستسفر عنه المفاوضات المرتقبة بين الحكومة والمعارضة، وأعلن أنهم لا يثقون في الوعود الإنقاذية. والغريب أنهم مازالوا يلوحون بالقرارات التي أعلنها المدعو أوكامبو باسم محكمتهم الدولية المزعومة، ولعل هذه التصريحات الجوفاء والتصرفات الخرقاء هي التي تؤدي لنتائج عكسية وردود فعل سلبية. وقد صرح السيد نائب رئيس الجمهورية ورئيس القطاع السياسي للمؤتمر الوطني، بأنهم لا يمانعون في قيام حكومة قومية ولكنهم يرفضون قيام حكومة انتقالية، ولكن المعارضة بكل أحزابها ورغم تناقضاتها فإنها في حالة انتظار وترقب لهدف ترتجي كلها تحقيقه يتمثل في تشكيل حكومة انتقالية يكون حزب المؤتمر الوطني هو أحد مكوناتها، لتقوم هذه الحكومة الانتقالية المشار إليها بإجراء انتخابات عامة. وقبل ثلاثة أيام ألقى الرئيس البشير خطاباً في مدينة بورتسودان وبكلمات واضحة قاطعة على حد السكين ذكر أنه «لا لتشكيل حكومة قومية، ولا لتشكيل حكومة انتقالية، ولا لتأخير إجراءات الانتخابات» ولكنه أعلن أنهم سيتفاوضون مع كل القوى السياسية حول القضايا الوطنية العامة. ومن الواضح أن الأحزاب المعارضة والحركات المتمردة المسلحة وقطاع الشمال والخواجات يركزون تركيزاً رئيساً على موضوع السلطة وكيفية تداولها، أو بالأحرى كيفية انتزاعها من النظام الحاكم أو اقتسامها معه. والقراءة المتأملة المتمعنة لمآلات الأمور في المرحلة الراهنة تشير إلى أن الساحة السياسية العامة ستشهد لفاً ودوراناً في حلقة مفرغة ربما تعقبها تحرشات أجنبية وضغوط اقتصادية تكون أكثر شراسةً، وفي كل الأحوال فإن الصراع الدائر حالياً هو صراع حول السلطة، والأغلبية الكاسحة الساحقة من الشعب السوداني لا ناقة لها ولا جمل فيه.