- وصحافتنا المسكينة، تذكرني بحكاية «العُمدة» بانقا، والتي حكاها لي صديقي «العم بابكر»، الذي يزعم أنهُ كان من ضمن رعايا ذلك العمدة ذات يوم، على أيام الإدارة الأهلية.. - وسعادة العُمدة الذي كان بحكم موقعه رئيس هيئة المحكمة الأهلية في عموديته كان رجُلاً طيب القلب، لا يستلطف العقوبات الصارمة أو«الدموية» إلا في حال القتل، أما ما دُون ذلك فقد كان يعتمد سياسة «التشهير»، اعتقاداً منهُ أن الناس خصوصاً أهل عموديته ذووحياءٍ وأخلاق، وحيثما تسامع الناسُ أن فلاناً بن فلان قد «سرق» أو نهب أو غشَّ أو احتال، فإن المعنِيَّ بهذا التشهير، بل وعائلته وحتى قبيلته، لن تسعهم الأرض، وسوف يتوارون حياءً وربما ارتحلُوا عن العمودية بأكملها فراراً من العار.. - والحقُّ إنهُ والحديث لصديقي أفلحت سياسة العُمدة ردحاً من الزمان في ما لم تُفلِح فيه العقوبات الصارمة كالسجن والجلد، فالعُمدة ما إن يؤتَى بسارقٍ من رعاياهُ، وما إن يثبت عليه الجُرمُ بعد انعقاد المحكمة، بقيام الدليل القاطع أوبالاعتراف، حتى يصيح: - محكمة ... - فيصمُتُ الناس في رهبةٍ والعمدة كان قد اعتاد على أن يدعُو جميع نساء القرية لشهود المحكمة يوم انعقادها، ويخص بالدعوة «حاجة السُّرَّة» و«بهيَّة الحلبيَّة»، وهُما كانتا في القرية بمثابة الفضائيات اليوم، بل وكالات الأنباء العالمية، وكان يدعُو أيضاً جميع الرجال الذين لا تشغلهم أعمالهم عن حضور المحكمة ينتظِرُ شهودُ المحكمة صوتاً صارماً من العُمدة يقول: - حكمت المحكمة على «فلان ود فلان» ب«شيل الحال».. - ثُم يُصدِرُ العُمدة أمرهُ لشهود المحكمة بالخروج في تظاهرة في طرقات القرية، هاتفين: فلان حرامي «إن كان قد سرق» أو«فلان كضاب» إن كان قد كذب، إلخ من جرائم .. وكان ذلك، في بدء الأمر، عقاباً قاسياً للمحكوم عليه، إذ يصبح اليوم التالي عادةً، وقد هجر الرجل القرية إلى الأبد، وربما عائلته كلها.. حتى جاء زمانٌ كانت تمُرُّ فيه الشهور دون أن تنعقد المحكمة، بعد أن أفلحت عقوبة التشهير القاسية في تنظيف القرية من المجرمين .. - قُلت للعم بابكر: لقد كان عُمدتُكُم ذاك رجُلاً حكيماً!! - ردَّ ضاحكاً: أصبر.. فالحكاية لم تكتمل.. - أها.. - سرعان ما انتشر خبر عمدتِنا وأحكامه المبتكرة في العموديات المجاورة، وحتى البعيدة منها، ولم يلبث الأمن مستتباً في القرية إلا بضعة أشهُر، ليُفاجأ الناس بوجوه جديدة تأتي لتسكن في أطراف القرية من كل حدبٍ وصوب .. ما إن تنتهي مدة سجن «حرامي» أومحتال، أو«صاحبة إنداية» في عمودية مجاورة حتى يشد رحالهُ إلى قريتنا.. وعادت القرية لتشهد عديداً من الجرائم، ونشأت على حواف القرية «خمَّارات».. - ثُم ماذا.. - جيءَ إلى المحكمة بلص من أولئك الغُرباء، فأدانته المحكمة، وسألهُ العُمدة عن اسمه كاملاً، ثم أصدر حُكمَهُ على «فلان ود فلان» بالتشهير .. وخرجت القرية تهتفُ بأن فلان بن فلان «حرامي» وكان في وسط التظاهرة فلانٌ المحكوم عليه ذاتُهُ يهتف معهم ويهلل ويكبر.. فقد فات على العُمدة أن فلاناً هذا لا أهل لهُ في القرية يخشى عليهم الفضيحة، ولا شرف لهُ ولا حياء يمنعُهُ عن مطالعة وجوه الهاتفين بجريمته.. وحكم العُمدة في اليوم التالي على «فلانة بنت فلان» التي أنشأت خمارة وداراً للقصف واللهو غير البريء في طرف القرية، حكم عليها ب«شيل الحال» أيضاً، وأمر الناس أن يهتفوا : «فلانة بنت فلان .......» فأطلقت المتهمة زغرودة على هذا الإعلان المجاني، الذي صدر بأمر العُمدة.. امتلأت قريتنا بكل أنواع الجرائم، ولم ينتبه العُمدة إلى اختلاف الحال فيغير من سياسته.. في ذمتك يا مولانا.. أليست صحافتنا اليوم، في أحاديثها عن وقائع الفساد الظاهرة للعيان، أليست توأماً لذلك العُمدة الطيب؟؟ صحافتُنا تُنادي في طرقات المدينة: فلان حراميييييي.. فلان مُزوِّر .. فلان كذَّاااااب .. وجميعُ هؤلاءِ «الفلانات» يضحكون ملء أشداقهم.. وبعضهن يزغردن للدعاية المجانية.. والدولة، مثلها مثل هيئة محكمة العمدة، تشكُرُ الصحافة على قيامها بفضح المفسدين!!