احتفل السودان بالذكرى الثامنة والخمسين لاستقلاله، وهو يمر بظروف سياسية واقتصادية غير مواتية بتاتاً، فالدستور لم يوضع بعد، بل إن الحزب الحاكم والأحزاب الموالية له لم تفلح في إقناع المعارضة بالمشاركة في وضع دستور دائم للبلاد من شأنه أن يضع حداً لجدلية تداول السلطة سلمياً، وتقسيم الثروة، مع تحديد شكل ونظام الحكم الذي يضمن استقرار البلاد ويجنبها الاضطراب والمواجهات التي ما فتئت تعصف بالسودان عبر الحقب الوطنية السابقة والراهنة. وحتى يكتمل الاستقلال لا بد من وضع دستور «يتضمن المبادئ والقيم العليا للمجتمع، وينظم السلطات وعلاقتها ببعضها وكيفية تداول السلطة»، وذلك لأن الدستور يعرف بكونه: «مجموعة من القواعد مكتوبة وغير مكتوبة تحدد مصادر وأهداف وصلاحيات وحدود السلطة السياسية. ويحدد شكل الدولة والحكومة وينظم السلطات المختلفة فيها والعلاقات بينها مع بيان حقوق الأفراد وواجباتهم». ووفقاً لهذا التعريف يرى بعض المراقبين أن الدستور هو الخطوة الأولى نحن تصحيح المسار السياسي في السودان، ويضربون لذلك مثلاً بدولة مثل الهند التي تتعدد فيها الثقافات والأعراق واللغات والأديان، ومستويات المعيشة، ويبلغ عدد السكان فيها ما يزيد عن مليار نسمة، إلا أنها تتمتع باستقرار سياسي مشهود، وتحقق معدل نمو جعل من اقتصاد الهند أنموذجاً للدول النامية، وكل ذلك بفضل توافق الأحزاب والنخب السياسية الهندية على دستور يعد من أضخم الدساتير في العالم، وبفضله استطاعت الهند أن تحقق هذا الاستقرار والتقدم والنمو. وفي مقابل ذلك مازالت مصر تعاني من الأزمات السياسية لعدم وجود دستور متفق عليه، وبالتالي ظلت هذه الدولة العريقة تتذبذب بين النظام الشمولي وتجربة ديمقراطية باءت بفشل ذريع، أو أنها قد أريد لها أن تفشل، وصارت الدولة العميقة هي التي تتحكم في زمام الأمر، مما ينذر بتفكك المجتمع المصري، لا قدر الله، تحت وطأة التنافس المحموم بين الجهات السياسية متباينة الأفكار والمنطلقات، دون مراعاة لمصلحة الشعب المصري وهويته وثقافته. وهذا ما يجعلنا نطالب زعماء وقيادات الأحزاب في السودان بأن يترفعوا عن الأطماع الضيقة والمرارات الشخصية والطائفية وينظروا للشأن الوطني بعين الاعتبار، إن هم أرادوا أن يذكرهم التاريخ في سجل العظماء من رجالات هذا الشعب الذي دفع الثمن غالياً ولكنه لم ينل إلا المتاعب وضنك العيش والهجرة في بلاد الله الواسعة جراء ما اكتسبت النخب السياسية المتصارعة التي لم تسجّل نجاحاً يذكر حتى اللحظة. ولذلك نعتقد أن الخطوة الأولى نحو الاستقرار هي دستور لا لبس فيه ولا غموض يضع اللبنات الأساسية لنظام سياسي تراعى فيه حقوق الحكام والمحكومين، ويحدد أطراً قانونية يعمل بموجبها كل من يصل إلى سدة الحكم سلمياً. وإذا نحن لم نحقق هذه الغاية، فلا نلوم إلا أنفسنا، إذ إن الزمن لا يتوقف، وسيكون المآل وخيماً، وسيعلم الذين يتلاعبون بمصلحة العباد والبلاد أي منقلب سينقلبون. من جانب آخر، يعاني السودان من أزمة إدارية مزمنة حسبما أشار إلى ذلك أحد خبراء الإدارة السودانيين المشهود لهم بالكفاءة والمعرفة. فهو يعتقد أن السودان ليست لديه مشكلة اقتصادية أو سياسية بل كل ما هنالك هو سوء إدارة للموارد الكثيرة التي حبا الله بها هذا الوطن الشاسع، حتى بعد انفصال الجنوب. فمخرجات التعليم تدنت لأنه ليس هنالك جهاز مركزي يخطط للتعليم، والخدمة المدنية قد ضربها داء التسييس والمحسوبية، حتى باتت بعض الإدارات الحكومية، خاصة في القطاع الاقتصادي، وبعض الأجهزة النظامية، حكراً على بيوت وفئات بعينها لا ينافسها في ذلك أحد، أو حتى لا يسمح له بمجرد التقديم لوظيفة، مهما كانت درجتها، في تلك المؤسسات. وفي غياب تام لمبدأ المحاسبة أصبحت تقارير المراجع العام تجد طريقها إلى سلال المهملات بكل سهولة، فضاع المال العام وتفرق دمه بين الجهات النافذة التي لا يطولها القانون ولا المحاسبة، فهي في كنف آمن، ولذلك لا يستغربن أحد مما حل بالخدمة المدنية في السودان وقصورها أو بالأحرى فشلها التام في تقديم الخدمات الضرورية للمواطن الذي صار مغلوباً على أمره، يجأر بمر الشكوى إلى الله! وإزاء هذا الوضع المزري، يعتبر حديث السيد رئيس الجمهورية عن الخدمة المدنية أخيراً ضوءاً في آخر النفق المظلم، فقد وعد سيادته بوقف سياسة التمكين التي أودت بالخدمة المدنية بإسناد الأمر إلى غير أهله، دون مراعاة للمؤهل الأكاديمي المناسب، ناهيك عن القيم والمثل التي تعد ضرورية لتولي مثل هذه الوظائف التي يناط بها أداء الحقوق إلى أهلها، من غير منّة ولا رشوة أو تفضل على خلق الله. فيا ليت السيد الرئيس ينجز ما وعد وعلى جناح السرعة، حتى نتدارك أمرنا قبل فوات الأوان، إن لم يكن قد فات أصلاً. أما الاقتصاد السوداني فهو بحاجة إلى إعادة هيكلة كاملة تعيد له قدرته على الازدهار والنمو والتفاعل مع الاقتصاد العالمي الذي يتغير على مدار الساعة، وهذا لن يتحقق إذا لم نخرج ببلادنا من مرحلة الاستهلاك والاعتماد على المعونات والهبات والديون الخارجية التي أثقلت كاهل الخزينة العامة بدفع الفوائد الربوية وأراقت ماء وجه السودان، إلى مرحلة الإنتاج والتصدير، سواء في مجال الزراعة بشقيها النباتي والحيواني أو المعادن أو غيرها من الثروات الكامنة في أرض السودان، وذلك لن يتحقق إلا بتشجيع رأس المال الوطني بتخفيف الضرائب والرسوم، وتبسيط الإجراءات المتعلقة بمثل هذه الأنشطة الحيوية، أو عبر شراكات ذكية تسمح بتدفق رأس المال الأجنبي، في ظل قانون ونظام استثماري يتيح للمستثمر حرية التصرف في عائدات استثماره، بعيداً عن أهواء النافذين في الأجهزة الحكومية على المستويين المركزي والولائي. وفي هذا الصدد لا بد من الاستعانة بالخبرات السودانية داخل وخارج الوطن، حتى نتوصل لرؤية وخطة تنموية قابلة للتنفيذ، مستفيدين من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال مثل تركيا وماليزيا والهند، وكل هذا غير ممكن إذا لم يتحقق السلام ويبسط الأمن في ربوع السودان كلها، مع إقامة علاقات خارجية راسخة.