نزل المطر، ملأ الجداول والحفر. هذه الأهزوجة كنا نرددها ونحن صغاراً ولكننا لم نكن نتوقع أن نكبر ونصل سن الشيخوخة وتكبر معنا تلك الجداول والحفر. ولكن هذا ما حدث. ولا أريد أن ألقي اللوم على أحد. لأننا تعودنا أنه ليس هناك شخص معروف بلحمه ودمه يمكن أن يلقى عليه اللوم. فاللوم إذاً على الحفر التي لازمتنا طيلة حياتنا وما زالت وما انفكت وما برحت تقبع في شوارعنا لتوقعنا في شر أعمالنا. والأمر كذلك، نحتاج إلى قسم من أقسام صيانة الشوارع مهمته مكافحة تلك الحفر الضالة. والموضوع لا يحتاج إلى كبير عبقرية. كل ما نحتاجه قلابات تحمل الزفت المخلوط بالحجارة والخرصانة وأن تنطلق في الشوارع لا تلوي على شيء إلا على الحفر.. لا تترك حفرة إلا وتملأها بالزفت.. هذا كإجراء إسعافي سريع ولنرجئ معالجتنا للحفر والشوارع بعد إنتهاء الخريف. غير أني قد لاحظت أن معالجة كل حفرة تتم بواسطة تيم يهندس الحفر. فتجد عاملاً يقود آلة قاطعة تحتاج لعامل آخر لكي يصب عليها الماء ليبردها، وعامل آخر يحجز الطريق ويقف بالقرب من لافتة تقول إن الطريق تحت التصليح وعامل آخر مهمته أن يرسم مربعاً حول الحفرة حتى يقوم العامل الذي يقود الآلة القاطعة بتربيعها، وعامل آخر يحمل عوداً خشبياً طويلاً لا أعرف ماذا يفعل به إلا أن تكون له فيه مآرب أخرى أو يهش به على الأغنام التي ربما تمر بالقرب من الحفرة. ولكن بعد كل تلك الهندسة والتربيع يحمل العمال أدواتهم ويذهبون ويتركون الحفرة وقد أخذت شكلاً هندسياً يسر الناظرين. ولا أدري هل هناك جهة أخرى مهمتها أن تأتي لتعاين تلك الحفرة المربعة لترفع بشأنها تقريراً للجهات المسؤولة ولكن هذا يحدث وقد حدث مرات عديدة في شارع الستين. المهم، أننا في الظروف التي نمر بها فإن هندسة الحفر بتلك الطريقة يعتبر ترفاً ومضيعة للوقت. وكل ما نريده أن تردم تلك الحفر بأسرع فرصة لأن تفاديها أو محاولة تفاديها تزيد في الاختناقات وتعطل المرور. ولو أردتم أن تتأكدوا من هذه الحقيقة دونكم شارع جبرة وشارع الصحافة ظلط وشارع الزعيم الأزهري ببحري. فهناك تهتك وتحالف بين عدد من الحفر من الناحية الشرقية للشارع والشارع المتجه إلى كوبري شمبات، وأصبح الشارع الصالح للمرور شيئاً أشبه بالصراط من الناحية الغربية وكل العربات تتكدس وتتدافع بالمناكب الحديدية لتمر من ممر خيبر ذلك. وأنا على استعداد لأمتطي صهوة أي قلاب مع أية مجموعة من العمال لأدلهم على الحفر ما ظهر منها وما بطن.. حتى يقوموا بردمها. بالمناسبة ما زالت عملية ترميم كوبري القوات المسلحة بكوبر تسير على أكثر من مهلها ولن تتم إلا بقدوم أولمبياد المكسيك بعد «36» شهراً، أو هكذا قالوا. ولو كنت مديراً لمصلحة الآثار لاعتبرت معظم طرق العاصمة بحفرها تلك معالم أثرية ولأقمت حولها الحواجز ومنعت السابلة والراكبة والرادفة والمتركشة حق المرور عليها. فلا يجوز أبداً طبقاً لقانون الآثار المساس بالكيان الآثري أو تعريضه للتلف. وسوف أقدم للمحاكمة كل من تجرأ ووطأ بقدميه أو لساتك عربته تلك الطرق الأثرية، خاصة الطريق الذي يقع عند تقاطع السكة الحديد وشارع الصناعات الممتد من المنطقة الصناعية بالخرطوم بحري، فهذا شارع أثري ويرجع تاريخه إلى مملكة الفونج وقد قام بتشييده عمارة دنقس بعد أن استجلب له الزفت الذي كانوا يطلقون عليه في ذلك الزمن اسم القطران من بلاد ما بين النهرين. وقد بقي الطريق المسفلت على حاله تلك حتى وقف عليه كتشنر وغز عصاية، وقال هنا تعبر خطوط السكة الحديد لتغزو مدينة الخرطوم وقد كان.