فشلت الجولة الأخيرة من مفاوضات أديس أبابا! وكان ينبغي لها ذلك، لأن عرمان ما هو إلا ذراع للذين يخططون له، فهم يمارسون سياسة النفس الطويل كإجراء إستراتيجي لتبديد الزمن وإنهاك قناعاتنا لننسى مراراتنا ونتنازل عن سقفنا التفاوضي الذي محوره عند المخلصين هو حماية وحدة السودان ورفض أي جسر يقود إلى تقرير المصير في تلك المناطق «وإن أبدى البعض منا غير ذلك»، وسوف لن تتوقف آلياتهم في سبيل ذلك، ضغوط دولية - مقترحات الوسطاء والمحاصرة بالأوضاع الإنسانية المقدور عليها داخلياً ثم الاتهامات بأننا دعاة حرب ليردد الكمبارس هنا المقولة الخرقاء «لا بديل للحوار لحل المشكلة» ولكن ما هي المشكلة؟ نيفاشا لم تسهب في نصها إلا في ثلاثة مواضع، الأول قضية الجنوب التي جاءت تحت ترتيبات الوضع بالجنوب، وفصلت الكيفية التي سيتم بها تقرير المصير وبناء هياكل الحكم والمجالس المحلية والسلطات القضائية والقطاع التنفيذي والتشريعي والجيش والشرطة، والقارئ لهذه البنود يصل به الأمر إلى أن يعتقد أنه يقرأ في دستور دولة ناشئة وليس بنوداًَ لاتفاقية احتمال ألا يحدث فيها الانفصال. والموضع الثاني الذي أسهبت فيه نيفاشا كان ترتيبات بناء السودان العلماني في حال عدم حدوث انفصال، ففصلت الكيفية التي سيتم بها تذويب الهوية الإسلامية ليصبح دين الإسلام وإن كان دين الأغلبية لا يتميز عن الأديان الأخرى ولو كانت وثنية، ورتبت خروجه تماماً من الحياة السياسية، ولم تترك للإسلام مجالاً ليسوس حياة الناس، كذلك فصلت قطاعات أخرى في هياكل الحكم في الجيش والشرطة والخدمة المدنية والتنفيذية والتشريعية.. الخ «نص الاتفاقية»، والموضع الثالث الذي أسهبت فيه كان ترتيبات الوضع الانتقالي الذي أريد له أن يكون وضعاً ابتدائياً، إما قاد إلى تقرير المصير أو بناء السودان العلماني في حال عدم الانفصال، لذلك فصلت كيفية تكوين الدستور الانتقالي الذي يحمل هذه الروح وهياكل الحكم والسلطات السيادية والنيابية إلخ على النحو الذي يعرفه الجميع، وبديهي ألا يكون هناك فصل يتحدث عن الوضع في حال حدوث الانفصال، والانفصال في أجندتهم كان في حكم المنتهي رغم اجتهاد المخلصين لمبادئهم في محاولة ممارسة الوحدة الجاذبة، ولكن الاستعمار الجديد لم يكن ليكتفي بفصل الجنوب فقط، فنيفاشا رغم أنها أوقفت الحرب مع الحركة الشعبية فقد كانت بمثابة مشروع إستراتيجي يمكن أن يكملوا به استهدافهم للسودان، وما كان ذلك ممكناً إلا بإطالة عمرها حتى بعد حدوث الانفصال الذي ينبغي أن تنتهي به. ولم تكن إطالة عمرها ممكنة إلا بالإبقاء على قضايا منصوص عليها في الاتفاقية معلقة والإصرار بألا حل لهذه القضايا إلا وفق مقررات نيفاشا. وهكذا ماطلوا وغفلنا فأبقوا على أبيي وأبقوا على ترسيم الحدود وأبقوا على فرية المنطقتين التي كان ينبغي أن تنتهي قبل تقرير المصير. ومسألة المنطقتين «وفق نيفاشا» ليس مثل ما يديرون به الأمر اليوم، بل تتحول إلى مسألة محلية الدور الاساسي فيها لممثلي الشعب عبر المجالس التشريعية لمتابعة مسار الاتفاقية في ما يعنيهم من قضايا التنمية وصولاً إلى المشورة الشعبية إذا كانت هناك ضرورة لها، وليس بعد ذلك أي دور للحركة الشعبية. والمشورة الشعبية لها فهم في الاتفاقية ولها فهم آخر عند دعاة تقسيم السودان. وهكذا أبقوا على هذه القضايا معلقة لتلازمنا نيفاشا بعد تقرير المصير ليبقى مشروعهم في استهداف السودان معلقاً في هذه القضايا. ولا أظن أنه سيبلغ بنا الندم مقداراً كالذي بلغنا لعدم حسم قضية أبيي واستقراء الرضاء عما تحقق من الاتفاقية في المنطقتين. وينبغي أن يكون ذلك هو إحساس الذين أداروا هذا الملف إن كان ذلك من أجل الله والوطن. فإبقاء هذه القضايا كان هدف الاستعمار الجديد حتى يصير الجنوب دولة تنازعنا على أبيي والحدود، ويصبح قطاع الشمال مخلفات متفلتة عن الميثاق القديم في نيفاشا ليواصل تفجير الأوضاع باسم المنطقتين. وهكذا جمعت كل القضايا في سلة نيفاشا مع أبيي التي أصبح لها طرف دولي، ليردد بعض السياسيين «إن القضايا المعلقة يجب أن تحل وفق مقررات نيفاشا»، وهكذا بقي دستور نيفاشا حياً ومرت ثلاث سنوات حتى الآن بعد انفصال الجنوب، وأملنا في الشريعة الإسلامية يتآكل كل يوم، ويعلم الجميع أن بقاء دستور نيفاشا هو بقاء السودان بمواصفات علمانية على الوضع الانتقالي الذي نفذ قانون المرأة العلماني وقانون الطفل لأنهما منصوصان في دستور نيفاشا «الالتزام بالمواثيق والمقررات الدولية» لتفتح المنابر للعلمانيات للحديث عن روابط الأسرة، لتتفكك ويصبح الزواج مجرد عقد مبايعة بين اثنين فتموت المودة، ليرددن في بلاهة الدعوة إلى المجتمع المدني ويشوشن مفاهيم عازة الموروثة ديناً وعرفاً بمفاهيم ضد الأمة التي لا ثنائية فيها بين مدني وعسكري.. مفاهيم مجتمع حر بلا قيود مرجعيته التراضي في كل شيء حتى وإن اجتمع غداً اثنان تحت سقف بلا عقد زواج كما يفعلون في الغرب. إذن كان يجب أن تفشل هذه الجولة أيضاً لأنه مازال هناك شرفاء ومخلصون للسودان في مواقع القرار، وأديس لم تبلغ بعد نضج نيفاشا.. لكن يستمر تفعيل القنابل الموقوتة في كل جولة «إذا غفلنا» للدفع في أحد الاتجاهين أما نظام حكم علماني كالذي وضعت بنوده في كمبالا وإما الفتنة التي تعصف بالسودان إذا وقّعنا على تقرير المصير في أي شكل من الأشكال! فمن يقبل من أبناء المنطقتين التنازل عن انتمائه التأريخي الثقافي المتشبع بتراب هذه الأرض منذ الأزل؟ فإذا كان هناك من يظن أن ذلك ممكن فإنه يخطط للفتنة وتفتيت السودان، فالسودان ليس مثل هولندا. علينا أن نعيد قراءة الوضع الراهن في المنطقتين بصورة موضوعية لإعادة توصيف المشكلة، وذلك من حيث هياكل الحكم والممارسة السياسية والتماسك الاجتماعي والاستقرار والمشاركة في برامج الدولة وأماني الناس وآرائهم هناك وعدد الذين تحت الوضع الإنساني وعدد الذين هم في قائمة عرمان من أبناء المنطقتين إن وجدوا أين دورهم في ما يجري في أديس؟ دعونا نحدد المشكلة على الحال الراهن. كيف يكون عرمان مفاوضاً باسم المنطقتين؟ وكلما غضب على النظام وجه مدافعه إلى صدورهم في كادقلي وأبو كرشولا والدلنج وتلودي؟ يطالب بحقهم ويقتلهم؟ وعندها سيتبين لنا أن القضية ليست على الشكل الذي نذهب به إلى إثيوبيا ليعطى عرمان حقاً عنهم لأنه هو الذي يصنع الأزمة والاقتتال وليس أبناء المنطقتين، ليفتح بذلك مجالا للاستعمارالجديد. إذا أردنا أن نحل هذه القضية يجب أن نفك الارتباط بين قطاع الشمال والمنطقتين ونعود بها إلى المنابر الداخلية مع قيادات هذه المناطق التي تجتمع اليوم لنبذ الحرب، وستعلمون أن الأمر ليس نزاعاً مع نظام في سلطة أو في ثروة، والجميع يعلم ذلك من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بل إن الفعاليات السياسية والاجتماعية التي تحدث كل يوم في المنطقتين تؤكد لنا ذلك. وعلى أبناء المنطقتين ألا تكون توقيعاتهم المليونية لنبذ الحرب فقط وإنما الدفع بالأمر في هذا الاتجاه. وبعدها سوف تكون أجندة الاستعمار الجديد مكشوفة في ورقة عرمان، ولن تكون لنا حاجة في الاستماع لمن يريدون تقديم السودان على طبق للاستعمار الجديد ليساومنا على الهوية الإسلامية.