ألقى المشير عمر البشير رئيس الجمهورية خطاباً أمام مجلس الوزراء بعد حوالى شهرين من إلقاء خطابه السابق الذي ظل الجميع في انتظار ما ستسفر عنه الحوارات والمفاوضات التي أخذ المشير البشير يجربها في بيت الضيافة ومعه بعض أركان نظامه السابقين والحاليين. والتقى برئيس حزب الأمة والوفد المرافق له، والتقى بشريحة من الناصريين، والتقى بالأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي والوفد المرافق له. والتقى بمجموعة تسمى مجموعة أحزاب الوحدة الوطنية وقوامها حوالى ثلاثين حزباً صغيراً، وصرح بعضهم بأن البشير التقى حتى الآن بقيادات سبعة وخمسين حزباً من مجموع خمسة وسبعين حزباً، وأبدى الحزب الشيوعي وحزب البعث تمنعاً وقدموا بعض الشروط، ومازال القائمون بأمر الحوار من قبل حزب المؤتمر الوطني الحاكم يسعون لإقناعهم بضرورة الحضور لبيت الضيافة كما حضر غيرهم لإجراء حوار أو بالأحرى أنس معه. وقد أعلنت أحزاب صغيرة أخرى من ذوات وزن الريشة رفضها للحوار. وإن الرصد الدقيق لما ظل يجري في الشهرين الماضيين يؤكد بجلاء أن تباين المواقف بقبول أو رفض التفاوض قد أدى لخلافات وملاسنات بين بعض مكونات تحالف المعارضة، وهي متنافرة أصلاً وبينها ثأرات تاريخية وخلافات فكرية وقديمة ويجمع بينها هدف مشترك واحد هو اسقاط النظام، ولعل بعض الذين ارتضوا الحوار مع النظام قد غيروا موقفهم السابق وتخلوا عن ذلك الهدف وأخذوا يعملون وفق استراتيجية جديدة. وإن بعض الذين ارتضوا الحوار مع النظام أخذت المواجد والترسبات القديمة والغيرة تظهر بينهم بوضوح من خلال تصريحاتهم. ومن جانب آخر فإن المحاورين للنظام يرى بعضهم أنه أحق من أي إنسان آخر برئاسة البلاد، وستظل عقدة الرئاسة حائلاً بينهم وبين الوصول مع النظام لاتفاق، وربما يرضون بحل وسط يقضي بخلق منصب رئيس وزراء.. وإن الكثيرين من المعارضين الذين ارتضوا الحوار مع النظام ينتظرون إقامة ملتقى جامع ويطمح بعضهم في الوصول لاتفاق يماثل ما تم في جنوب إفريقيا قبل نحو عقدين من الزمان، وهذا يعني أن النظام الحاكم الذي عرف بأنه صعب المراس لن يسمح اذا اقام هذا الملتقى بأكثر من تقديم عدة دراسات وأوراق في مختلف المجالات وتقسيم المجتمعين للجان ومناقشة كل الأوراق باستضافة واتاحة الفرص للمعارضين لطرح رؤاهم، بل يمكنهم المساهمة في إعداد الأوراق، وفي النهاية يمكن الاتفاق على خلاصات يقال إنها هي البرنامج المتفق عليه، ويمكن أن يشرك في السلطة القائمة كل من يرتضيه ويوافق عليه. وخلاصة القول إن ما يجري حالياً لا يعدو أن يكون «طق حنك» وأنس سياسي مفتوح وتجميد للأمور مع انتظار وضع هلامي يتخيله كل طرف وفق مراده وهواه وكل يغني لليلاه، وقد أُحضرت الحبال في انتظار أن يُحضر البقر، ويعني هذا حتى الآن وجود حبال بلا بقر!! إن المشير البشير تحدث في خطابه الأخير بوضوح عن ضرورة محاربة الفساد واستئصاله، وعن ضرورة إيقاف البذخ، ووجه باستعمال كل الدستوريين عربات جياد والتخلي عن استعمال العربات الفارهة، ومن حق أي مواطن أن يقتني ما يشاء من ماله الخاص، ولكن من غير اللائق تبديد المال العام في الترف الكاذب. وتطرق الخطاب لضرورة رتق النسيج الاجتماعي ومعالجة الأدواء الاجتماعية الوبيلة الدخيلة التي طرأت على المجتمع، ولا ينكر أحد أن العنصرية والصراعات القبلية بسبب المحاصصة على مقاعد السلطة وغيرها من أسباب قد تأججت في هذا العهد. إن الاعتراف بهذه الأخطاء بعد ربع قرن من الزمان يعني البدء في معالجتها والاعتراف بالخطأ فضيلة، ويؤكد الجدية في السعي لإيجاد المعالجات. وغني عن القول إن الوطن يشهد ضغوطاً اقتصادية ومعاناة معيشية تشكو منها قطاعات واسعة من الشعب، مع تحديات أمنية وبؤر ملتهبة وأخرى قابلة للالتهاب، وتغذيها وتدفعها التحرشات الأجنبية والتمويل الخارجي. اما الدستور فهو من أهم الأمور، وظل السودان في فترات طويلة خلال عدة عهود يحكم بدستور انتقالي معدل، واعدت بعض الدساتير وألغيت مثل دستور عام 1973م ودستور عام 1998م الذي ارتبط بكلمة التوالي حتى أطلق عليه البعض اسم دستور التوالي، وفي عام 2005م حكم السودان أيضاً بموجب دستور انتقالي معدل وعدل مرة أخرى بعد انفصال الجنوب، واذا اراد النظام أن يجري عليه أية تعديلات جديدة فإن باستطاعته أن يفعل ذلك لأنه يملك أغلبية ميكانيكية في المجلس الوطني الحالي الذي يمثل نواب المؤتمر الوطني فيه أغلبية مطلقة، وليست هناك ضغوط جماهيرية أو الحاح شعبي عاجل على ضرورة إعداد وإجازة دستور دائم على أهمية هذا الأمر، ولكن يمكن تأجيل هذا الأمر لحين إجراء انتخابات برلمانية حرة نزيهة يعقبها تكوين لجنة قومية تمثل فيها القوى السياسية المختلفة تمثيلاً نسبياً وفقاً لأوزانها التي توضحها نتائج الانتخابات، مع تكوين لجنة فنية للدستور، وبعد إعداده وإجازته من اللجنة القومية يجيزه البرلمان في مراحله الثلاث. إن اعداد دستور دائم قومي يتوافق عليه الجميع أمر مهم ولكن يمكن تأجيله لحين ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية القادمة، والنظام الحاكم أعلن مراراً وتكراراً أن الانتخابات ستجري في موعدها، ومن الواضح أنه يعمل لتمديد سيطرته وبسط نفوذه في الدورة القادمة التي ستمتد بين عامي 2015 2020م، وعلى المعارضة الممزقة شذر مذر ألا تضيع وقتها ووقت الشعب السوداني سدىً، وعليها قراءة الأوضاع قراءة موضوعية لتتعامل معها بواقعية لئلا تنتظر السراب وماء الرهاب، والوطن ليس ضيعة لشريحة من السياسيين يجري التفاوض معهم، ولكنه ملك لعشرات الملايين من المواطنين، وهم أصحاب الحق الأصيل في هذا الوطن، ولا يمكن اعتبارهم مجرد متفرجين واقفين على الرصيف، ومن حق هذه القواعد العظيمة إقامة دولة مؤسسات راسخة تبدأ من المجال القاعدي صعوداً للقمة، ولا بد من حوار جهير مفتوح بلا وصاية وأوصياء لتقويم إعوجاج المسيرة.