مدينة دنقلا حاضرة الولاية الشمالية من أعرق الحواضر السودانية التي سطع نجمها في تاريخ الحضارة الإسلامية السودانية.. إذ أن مدينة دنقلا تشرفت ببناء أول مسجد أسس على تقوى من الله ورضوان في تاريخ السودان الإسلامي، عندما دخلت الدعوة الإسلامية المباركة إلى أرض السودان في عهد خليفة رسول الله «صلى الله عليه سلم» الفاروق عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» الذي ولى عمرو ابن العاص «رضي الله عنه» ولاية مصر، وقد أرسل الأخير «رضي الله عنه» الصحابي الجليل عبد الله بن ابي السرح الذي حمل دعوة التوحيد الحنيفية إلى أهل السودان، فكان بناء أول مسجد في مدينة دنقلا مازالت آثاره باقية. تلقيت دعوة كريمة من معالي الفضائل الإخوة العلماء في جمعية الكتاب والسنة الخيرية لزيارة مدينة دنقلا العريقة للمشاركة في مهرجان دعوى عظيم، سررت بهذه الدعوة المباركة ليس لأنها الزيارة الأولى لمدينة دنقلا، وانما داعي السرور هنا عظمة المناسبة وسمو الهدف.. وخرجنا من الخرطوم يوم الإثنين الماضي الموافق 23 من جمادي الأولى سنة 1435ه الموافق 24 مارس 2014م الساعة الحادية عشرة وست دقائق صوب حاضرة الولاية الشمالية في وفد من الرفاق كريم، يشمل أهل الفضيلة من العلماء والدعاة إلى الله والوفد الإعلامي الذي حُظي بالصحبة.. ومضينا في طريقنا نغشى ونغادر مدناً وقرى ومراكز لها ذكريات في وجدان المسافرين إلى الولاية الشمالية «قديماً وحديثاً» على الطريق غرب النيل كمحطتي الملتقى والتمام ومدينتي الدبة والقولد وما بينهم من مراكز وقرى كقرية «ود النميري» التي رأيت عند مدخلها على غرب طريق الاسفلت مظلة مكتوب عليها مظلة «جعفر محمد نميري» يقصدون المشير جعفر محمد نميري رئيس جمهورية السودان الأسبق ذلكم الهرم العظيم رحمه الله تعالى ولعل تلك دياره وتلك قريته التي جاء منها لحكم السودان.. ونحن نمضي في طريقنا تتراءى أمام ناظرنا إلى مد النظر كثبان وتلال من الرمل ناعمة، كأنها قد غشاها «غربال» دقيق عزل عنها حبيباتها الخشنة، راقدة ممتدة على جانبي الطريق تراها ساكنة مطمئنة كأنها قد أمنت غارات عواصف هوجاء كانت قد عبثت بها من قبل، فجعلتها طبقاً عن طبق. عندما بلغنا القولد ضجت في مغارة نفسي أصوات نشيد قديم كنا ننشده بتلحين في أيامنا الخوالي ونحن أطفال في مدرسة «الموريب» الابتدائية المزدوجة الصف الرابع حصة الجغرافيا ننشد نقول: في القولد التقيتُ بالصديق.. انعم به من فاضل صديق زرنا معاً حدائق النخيل.. في ظلها قد طاب لي مقيلي وتذكرت أستاذنا الذي كان يلقنا هذا النشيد، ويسافر بنا عبر الخيال فتارة نحن في القولد مع صديق عبد الرحيم، وتارة أخرى نحن في «ريرة» مع القرشي محمد، ومرة مع موسى ود الفضل في «الجفيل»، ومرة أخرى مع منقو زمبيري في يامبيو، نعم تذكرت أستاذنا «حسين النيل» وتلك أيام يبكي عليها اليوم شبابنا، وقد أحاطت بنا صروف الدهر والتي كنا منها برايا.. بدت لي دنقلا زاهية هادية جميلة ليست دنقلا التي رأيتها قبل عامين وبضع شهور! تقاربت المباني وطلت مؤسسات الدولة فيها شاهقة فتداعت أحياؤها وامتداداتها تتلاصق كأنها يقبل بعضها بعضاً، ومارت فيها الحياة وظهر الزحام والسوق والطرقات وأبت مآذن المساجد إلاّ تعانق السماء احسبها تقول من هنا في دنقلا انطلقت كلمة الحق «الله أكبر» من هنا من مسجد عبد الله بن أبي السرح! وعندي لا غرابة ولا غرو.. وكيف لا تكون دنقلا مولد «الله أكبر» الأولى وقد مشى في مغانيها عبد الله بن ابي السرح رضي الله عنه؟وكيف لا تكون كذلك وأهل دنقلا هم أحفاد التابعي السوداني الجليل يزيد بن أبي حبيب الذي أراني شيخنا إسماعيل عبد القادر أحد مواطني «منطقة» «أم الطيور» ورئيس مجلس الشورى بجمعية الكتاب والسنة كتاباً قديماً نفيساً نادراً يحمل سيرة وجهاد وفضل هذا التابعي الجليل «يزيد بن أبي حبيب» السوداني «دناقلة يا رسول الله».. وكيف لا تكون دنقلا كذلك وهي التي خرج من رحمها الطاهر العلامة السلفي الموحد والداعية العالمي محمد محمد السوركتي الذي أضاء نجمه في أندونسيا بلاد «سوهارتو» الذي سمي تيمناً باسم هذا العلامة السوداني «الدنقلاوي» مع تحريف قليل في الأصوات.. وفي دنقلا أرض الحضارة والمسجد الأول استقبلنا بحفاوة وكرم من أهلها وعلمائها ودعاتها وحكومتها ورجال وشباب قائمين يصلون في مساجدها التي أشاعت النور في البلد، وتناثرت في المحليات والقرى تكبر الله وتخزي الشيطان فيولي الدبر كلما كبر مكبر و «حيلل»، ولا حظ للشيطان بعد اليوم إلاّ جوف الصحراء من كثرة النداء إلى الصلاة. وفي لقاء عظيم تداعى إليه العلماء والدعاة وأئمة المساجد وطلاب العلم، عقد وفد العلماء والشيوخ في جمعية الكتاب والسنة الخيرية يوم الإثنين عقب صلاة العصر إلى مغرب الشمس لقاء الدعاة من الخرطوم بأهالي دنقلا، حيث اتحفنا دكتور مبارك محمد أحمد مدير إدارة التعليم بالجمعية ببلاغته وسحر بيانه.. قائلاً لو عددنا نعم الله علينا لخرّ المرء منا ساجداً لله، وهذه النعم زائلة، ومن شكرنا لله أن نقوي أخوة الاسلام التي ينبغي أن تكون في الله ولله، وهي في القلوب والأفئدة وثمرتها تعاون شرعي، وهو الذي جمعنا «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان» لا لحزبية ولا قبلية ولا طائفية وتلك من أسس البلاء، وقال: كتبنا منهجنا هذا ونظامنا وعرضناه على أهل العلم ومنهم فضيلة الشيخ ابن باز، وقد أقره بعد اضافة وحذف، وهو جهد بشري، ولا أحد يستغني من أن يصحح أو يزكى، ودعا إلى الصراحة والوضوح في الدعوة إلى الله تعالى، وكذلك المراجعة والتصحيح والتقريب، وقال هذا هو الذي يجمعنا، والمجتهد بين أجرين، ومن أعظم حقوق الإسلام مراعاة حقوق الأخوة في الله، وقال دكتور مبارك: عملنا في هذه الجمعية ظاهر تحت الشمس سواء أكان كفالة أيتام أو دعوة أو بناء مؤسسات أو إنفاق على الدعاة، وهذا هو العمل الذي تبرأ به الذمة، وقال إن من تحديات العاملين في حقل الدعوة غياب رؤية الصراحة والمناصحة التي اضرت بالجماعات، وقال إن منهجنا سلفية علمية. الشيخ إسماعيل عبد القادر رئيس مجلس شورى الجمعية قال في كلمته: يا إخوان ويا أبناء نحن مسرورون أن نكون في دنقلا، لأنها ارتبطت بالداعية محمد بن محمد بن محمد السوركتي، وهو من دعاة السلفية، وبلد التابعي السوداني يزيد ابن ابي حبيب، وهي المدينة الأولى في السودان التي تدرس القرآن برواية ورش، وقال: نحن في السودان الآن نواجه هجوم الرافضة، لأن السودان بوابة لإفريقيا الغربية تشاد، السنغال، النيجر وموريتانيا، وقال: لقد أثنى الشيخ حماد على السودان وقال إن شعبه يتقبل الخير، وقال إن ما يتاح للدعاة في هذه البلاد من قبل الدولة لا يتاح في أية دولة أخرى، وقال ينبغي ان يتركز جهدنا على اصلاح العقيدة، وقال أدعوكم أن تذكّروا الناس بالقرآن والسنة، وذكر أن الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى تلى ذات ليلة الآية «ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها..» يريد تفسيرها فبكى من صلاة المغرب حتى العشاء، وقال شيخ إسماعيل عبد القادر أيضاً أدعوكم إلى استصحاب الحكمة في الدعوة، وأن نهتم بإصلاح بلادنا وأهلنا، وان نتصدى للروافض ونحن اليوم في قوة، حيث كان أهل الدعوة في الثمانينيات قلة واليوم الحمد لله درس الناس في المدينة وسافروا في البلاد، وقال اوصيكم بتقوى الله وذكر مقولة «البغدادي» رحمه الله الذي قال حدثني أبي عن رسول الله أن حبس اللسان بالعمل وإلاّ انتحل، وقال أوصيكم بكتاب السلوك لابن تيمية. الشيخ عبد الحفيظ العدسي حفظه الله قال في كلمته في هذا اللقاء الدعوي الكبير: جزى الله إخواننا في هذه المدينة على حسن الاستقبال والضيافة.. وقال: حضرت محاضرة للشيخ عبد الرازق العباد فسئل وهو عالم رباني معروف كيف نحصّل الأخلاق الفاضلة ونتخلص من الاخلاق السيئة؟ قال بحسن الصدق في التوجه والالتجاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم» وسئل عن خصومات وخلافات الدعاة، فقال: العلاج في قوله تعالى «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين»، الإخلاص لا إلى هيئات ولا جماعات، ثم تحقيق متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وقال سبب الخلافات التفريط ومخالفة المتابعة، وذكر حديث ابن تيمة «ما حدثت عداوة بين قوم قط إلاّ كانت بسبب تركهم واجباً من الواجبات» وقال الشيخ العدسي لا يجوز لأهل السنة أن يغفلوا عن مهددات الدعوة، والخطر علينا إن لم نقم بالواجب استبدلنا الله «وأن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم»، وقال هذا قانون إلهي، وقال موجهاً حديثه إلى الدعاة الحضور: بفضل الله في مدينتكم «دنقلا» دعاة أخيار، فإذا ظهرت بينكم الفتنة فاذهبوا إلى أهل العلم. وتحسر الشيخ العدسي حفظه الله بقوله لكن بعض الشباب الأحداث يسعون لاسقاط اهل العلم، وقال إن من صفات الخوارج اسقاط العلماء من باب هذا «عالم سلطان» وذاك «مرجئ»، وقال موصياً الدعاة الحضور لا تتركوا من يُدخل إلى مدينكم الفتنة إلاّ رجل سعى بالخير إليكم، وقال اهل الفتن ازهد الناس في طلب العلم، وأزهد الناس في مجالسة العلماء، وأزهد الناس في طلب المنفعة، وقال فشى في أهل البصرة سب عثمان يعني ابن عفان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه حتى ظهر بينهم الليث بن سعد فروى فضائل عثمان فترك سبه، وفشى في اهل حمص سب علي يعني ابن ابي طالب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه حتى ظهر أبو بكر بن عياش فروى السنة فترك الناس سبه يقصد علي رضي الله عنه وقال الشيخ العدسي: كل من رفع الله شأنه كان بالعلم، ودعوتنا هذه لا يعقد فيها ولاء ولا براء إلا على حقائق شرعية إسلام وإيمان وإحسان، فلا بيعة ولا إمارة ولكن تنظيم للعمل وترتيب، دورات، ندوات، لقاءات، وتحسر الشيخ على خلافات بعض الدعاة . الشيخ معتز عثمان أبو الحارث مدير مكتب الدعوة قال: ليس لي حديث بين يدي المشائخ، ولذلك أوجز في كلمته فأجاد وأصاب حين، قال في التوضيح والبيان في شجرة الإيمان للامام السعدي قال: الداعية إلى الله يحسن إلى نفسه وإلى الناس، واحسانه إلى نفسه أكثر من احسانه إلى الناس، فمن شغل نفسه بالدعوة فتح الله تعالى عليه. الشيخ مزمل عثمان داعية من أهل دنقلا قال: في كلمته: أهل السنة والجماعة لهم نصيب من هذين المصطلحين وما سُموا بذلك إلاّ لأنهم عاضون عليهما في العقيدة والدعوة والاخلاق والسلوك، وما بهم من متابعة لمنهج النبي، حين قال: «القابض على دينه كالقابض على جمرة»، وقال القبض لا يكون إلاّ بإحاطة، وهو غير المسك، ويعني أن المقبوض يأتي عليه زمان يراد لها الإطفاء مثل الجمرة، ولهذا لقب اهل السنة والجماعة لقب عظيم يقتضي المحبة والإلفة والاجتماع والجماعة لا التحزب.. ثم ذكر قول قتادة رحمه الله «أهل السنة مجتمعون وإن تباعدت ديارُهم، واهل البدعة مفترقون وإن تقاربت ديارهم». ونواصل بإذن الله في مقال آتٍ قصة افتتاح 125» مسجداً ومصلى بالولاية الشمالية بحضور دكتور إبراهيم الخضر وأعضاء حكومته التي شيدتها جمعية الكتاب والسنة الخيرية، وتفاصيل ذلك وماذا قال الوالي إبراهيم الخضر عندما ضحك الجميع؟ وكيف عبر دكتور محمد عبد الحليم وزير الرعاية فضحك الوالي.