أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي.. هكذا كان تعليقي وأنا أستمع للقرارات الشجاعة التي أصدرها الأخ رئيس الجمهورية، والتي لا أرى أنها تمثل الإصلاح المنشود كله لكنها وبدون شك خطوة بناءة في مشوار الإصلاح الطويل والشاق.. كانت كلمات الرئيس قوية ومعبرة وهو يعلن أن كل المسؤولين من الرئيس لأي مسؤول «حايركبوا» عربية جياد فقط: «مافي جهة تاني حاتشتري عربية إلا من جياد» ثم أمر بجمع العربات اللاندكروزر والتخلص منها.. وأذكر أنني في عام 2007م قمت بزيارة لمكتب النائب الأول السابق فوجدت سماسرة الBMW في مكتب الأخ خواض يعرضون سياراتهم على القصر، فحزنت وكتبت في عمودي في الزميلة «آخر لحظة» وقتها معلقاً باستهجان شديد ذاكراً أن تكلفة الBMW الواحدة قد تزيد عن ثمن خمس سيارات من ماركة السوناتا الجميلة التي ينتجها مصنع جياد، ثم أن صرف BMW من الوقود اليومي أضعاف أضعاف ما تستهلكه سيارات جياد.. لكن كانت الفاجعة أن رأيت سيارات BMW تزحم القصر الجمهوري ويركبها حتى تيم الحراسة المرافق للرئيس ونوابه.. وقد تحدث الراحل الشهيد الحبيب محمد طه رضي الله عنه عن أن الوزراء يستهلكون بطاقات البنزين كما يستهلكون مناديل الورق.. وعندما قدمت نفسي مرشحاً لمنصب والي الخرطوم في عام 2010م كان من أهم سمات برنامجي في مجال التقشف الحكومي هو أن تكون للوزير سيارة واحدة فقط من ماركة جياد الإنتاج الوطني لبلادي، وأن يسكن أي وزير في منزله الشخصي ولو كان في الأحياء الشعبية، وألا تستأجر الدولة منزلاً لأي وزير، وذكرت أنه يحرم على أي وزير العلاج خارج السودان بل يجب عليهم جميعاً من الرئيس إلى أدنى مسؤول أن يتعالجوا في مشافي الدولة، لأن ما تصرفه الدولة على العلاج للرسميين في الخارج يمكنه أن يؤهل كل مشافي الولاية ويجلب لها أحدث الأجهزة الطبية وأكفأ الأطباء، ويوفر بيئة علاجية جاذبة كما هو الحال في الأردن ومصر وغيرهما، ويرد ملايين الدولارات التي يصرفها المواطنون السودانيون على العلاج بالخارج.. كما أن العملات الصعبة التي تصرف على علاج المسؤولين بالخارج وأبنائهم حتى إذا اشتكى أحد المسئولين من ألم في ركبته ذهب هو وأسرته للأردن وبعضهم لألمانيا بتذاكر طيران درجة أولى ونثريات وخلافه، بينما يتظاهر مرضى غسيل الكلى في الشوارع لأنهم لا يجدون العلاج.. وقد رأينا عبر النت فواتير علاج ابن وزير المالية السابق في أمريكا وهي تكلف عشرات الآلاف من الدولارات وهذا ما ظهر وما خفي أعظم. هذه هي بداية الطريق التي كنتُ دائماً أنادي بها وأرى أنها تعني الانتماء للوطن ولمؤسساته، وتعني الارتفاع عن الهوى وحب الاستئثار لفئة دون الشعب بأموال الشعب.. عندما يتعالج الرئيس وأسرته ووالي الخرطوم ووزراؤه في مستشفى الشعب يتم الارتقاء بهذه المستشفى على مستوى التأهيل والمعدات والخدمات لأنها أصبحت تحت بصر وسمع الحكومة كلها.. لكن عندما يهدر الوزراء عملات الشعب الصعبة على ندرتها في مشافي الأردن وألمانيا وأمريكا فهذا يعتبر خيانة للأمانة وفساداً في الأرض وفقداً للقيادة القدوة الصالحة. إن هذه السياسة التي أشرنا لها ونادينا بها سوف تجعل الكثيرين يزهدون في المنصب الوزاري الذي يضحى بحق تكليفاً لا تشريفاً، إذ لا فرق بين الوزير وغيره من العامة «لقد عدلت فنمت يا عمر».. وعندها يختفي هذا الفاقد السياسي الذي أصبح همه طرق أبواب المسؤولين صباح مساء بحثاً عن الوزارة لأنها طريق النهب المصلح بدلاً من النهب المسلح، ولأن الفساد فيها كله بقانون .. مال الوالي بلائحة ولا حسيب ولا رقيب، والتجنيب بقرار ولا حسيب ولا رقيب، والوفود لمن هبَّ ودبَّ وبلا ضابط ولا مؤهلات، حتى أن بعض العوام مكثوا في نيفاشا لعدة شهور تقارب العام ويصرفون نثريات يومية على حساب خزينة الدولة، ثم عادوا لنا بأسوأ اتفاق شهده تاريخ السودان، لكنهم عادوا على المستوى الشخصي محملين بعشرات الآلاف من دولارات النثريات.. نعم كل هذا يجب ضبطه، فالوفود مثلاً لا يزيد الوفد عن شخص واحد ثم ينضاف إليه السفير والدبلوماسيون في البلد المعني، فلا داعي لفرد من المراسم وسفير من الخارجية وآخر من الإعلام وخامس من المرأة وسادس من الأمانة المعنية من الحزب الحاكم، وكل هؤلاء تصدق لهم النثريات من رئاسة الجمهورية.. هذا هو النهب المصلح. الآن الأخ الرئيس قد بدأ وثبته في الأضواء الكاشفة فلا مجال إلا لمواصلتها بكل صدق وشفافية.. ونحن يمكننا أن نقول عفا الله عما سلف إلا في المال العام الذي يجب رده لخزينة الدولة.. لكننا لا نقبل الوثبة المرتدة لأنها تعني الردة. أما المزيد الذي نطالبك به يا أخي الرئيس فهو المزيد من الحريات، وأن يشهد القضاء ثورة حقيقية تكسبه استقلاله الكامل، وأن تُرفع الرقابة عن الصحافة لأن كل الصحف يتم نشرها على النت قبل أن تصل للمواطن في السوق.. فقراء النت أضعاف مضاعفة وأكثر من قراء الصحافة الورقية التي لا توزع جميعها أكثر من مائتي ألف نسخة. كذلك لا بد أن تؤول مسألة الزراعة في بلادنا الى أهل التخصص والخبرة، فوزارة الزراعة ينبغي أن تكون هي الوزارة السيادية الأولى كما في الصين والهند وغيرهما من الدول المتقدمة، أما عندنا فإنها من وزارات الترضيات، وهي وصنوتها وزارة الثروة الحيوانية من أهم وأخطر الوزارات في السودان، فوزارة الزراعة تارة تسند لاختصاصي جلدية كما هو معلوم، وتارة لطبيب عمومي في الحالة الصديق المتعافي، والآن تسند لمهندس لا علاقة له بالزراعة، لذلك شهدت الزراعة في السودان تردياً مريعاً .. ونحن دولة زراعية في المقام الأول ولو كنا ننتج بترول السعودية والعراق وإيران كلهم جميعاً، فبلادنا يجري فيها أعظم أنهار الدنيا لكن فائضه يذهب لدولة شمال الوادي بينما يصلي السذج والبسطاء صلاة الاستسقاء طلباً للماء والماء يجري من بين أيديهم وتحت أرجلهم كمثل العير في الصحراء يقتلها الظمأ والماء على ظهورها محمول. ثم نعود مرة أخرى لموضوع قرار الرئيس الرائع في ما يتعلق بسيارات جياد، وأرى أن تكون لكل وزير سيارة واحدة لا غير، فمن أراد المزيد فليتوجه الى البنك مرابحة أو قرضاً حسناً فهذا ما تستطيع أن تقدمه حكومة السودان لشعبها، وليعلم الأخ الرئيس أن هنالك من المخلصين من أبناء هذا الشعب من هم مستعدون للعمل بسياراتهم الخاصة.. فلماذا نمنح المسؤول سيارتين وثلاثاً.. بل البعض تظل كل سيارات الوزارة تحت إمرته!! هنا يجدر بي أن أذكر مبادرتي الإصلاحية التي رفعتها للمؤتمر الوطني في يناير 2014م، وقد تطرقت فيها لشتى مناحي الإصلاح، وقد استلمها الأخ مساعد الرئيس البروفيسور إبراهيم غندور وأمن على الكثير من النقاط الواردة فيها.. وهنا أشير إلى الفقرة التي وردت في مذكرتي في ما يتعلق بالسيارات، حيث ذكرت: «في كل دول العالم يمتطي المسؤولون القياديون في الدولة سيارة واحدة من الإنتاج الوطني، ويسكنون في منازلهم الخاصة ولا تدفع لهم الدولة فاتورة مكالمات ولا أموال للضيافة ولا سيارة للخدمة وأخرى للأسرة، ويتعالجون في مشافي دولهم ولا يعرف عندهم ما يسمى «مال الوالي أو مال النائب».. أما نحن فنترفع عن سيارة «جياد» التي يجب أن نفاخر بها ويجب أن يستعملها الدستوريون منا، فما أروع وأجمل «السوناتا»، وقد رأيت بعيني الرئيس الإيراني المهندس أحمدي نجاد يمتطي سيارة بيجو موديل «1993م» صنعت في إيران، وكان ذلك في عام 2010م، أي مضى على تاريخ إنتاجها سبعة عشر عاماً، بينما يكلف الدستوري الواحد عندنا خزينة الدولة في مجال السيارات والوقود والصيانة ما يزيد عن مليوني جنيه في العام، وغالباً ما تجدد السيارة سنوياً حسب الموديل الجديد وتذهب القديمة الى بعض الخاصة بعد أن يتم تلجينها وتباع بأبخس الأسعار. لماذا لا تخصص لكل مسؤول سيارة واحدة من مصنع جياد من ماركة «سوناتا» للوزراء و «آكسنت» لمن دونهم من وزراء الدولة والوكلاء، وتظل معهم طيلة بقائهم في الوظيفة الدستورية أي لا تجدد ولا تغير لمدة خمسة أعوام على الأقل، حتى يحافظ عليها وعلى صيانتها». ألقاك عزيزي القارئ الأسبوع القادم إن مدَّ الله في الآجال في مقال نرد فيه على سعد أحمد سعد.