تحدثنا في الحلقة الثانية عن التحولات التي لازمت نشأة الدولة الإسلامية وجانباً من الصراع السياسي في المسيحية لا سيما حقبة عصور أوروبا الوسطى والعنف المصاحب والملازم للدولة، وكذلك الدولة الإسلامية. وهنا نتحدث عن العصور التي تلت عهد الخلافة الراشدة وهي الحقبة التي امتازت بالقهر والعنف السياسي إلا بعد الفترات ذات المسافات القصيرة في مسيرة الدولة الإسلامية، وهذا التسامح على سبيل المثال ظهر وتجلى في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ورغم قصر عهده إلا أنه كان يشكل علامة فارقة بينه وبين كل حكام الدولة الأموية سواء الفرع السفياني أو أسرة معاوية والفرع المرواني وهم أسرة مروان بن الحكم التي ينحدر منها عمر بن عبد العزيز. ولعل السؤال الذي يدوي في أعماق تلك الأحداث هو ما سبب ذلك القهر والعنف المصاحب لمسيرة الدولة الإسلامية؟ ولعل السبب هو سيطرة ثقافة القهر على عقل الدولة بل ترسخ ذاك العنف في كل جنبات وحنايا المجتمع بما فيها الدين وليس العكس. كذلك يمكن أن نقول إن الإسلام كعقيدة حينما نشأت في جزيرة العرب وانداحت منها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً فلم تجد الدعوة الإسلامية دعائم وأسس دولة قائمة من ذي قبل، دولة بحكم واقع ذاك الزمان في مكة أو المدينة ذات أسس ونظم مثل ما كان جارياً في فارس ودولة الروم وحلفاء هذه الإمبراطوريات التي كانت قائمة على تخوم بلاد العرب مثل مملكة الغساسنة والمناذرة الغساسنة كانوا يدورون في فلك الرومان، والمناذرة كانوا يدورون في مجرة فارس، فلذا حينما قامت أسس العقيدة في المدينةالمنورة لم تجد أسس دولة وركائز حكم حتى تؤسس عليه دولة المدينة الوليدة في مهد الدين الجديد، أو تقوم حتى على أنقاض نظام كان قائماً يكون بمثابة أنموذج يسيرون على هداه ويطوره عبر التجربة كما حدث بالنسبة للعقيدة المسيحية حينما كانت تحبو على مدارج طفولتها الأولى، فلقد نمت وترعرعت رغم المواجهات تحت ظلال الإمبراطورية الرومانية ذات الأسس والتقاليد الراسخة بل دخلت الإمبراطورية الرومانية وأباطرتها في مواجهات راعفة ضد الدين الجديد أي المسيحية التي جاءت على حساب الوثنية، ولكن بعد أن انتشرت المسيحية وأصبحت ديانة الإمبراطورية أصبحت عقيدة الإمبراطورية الرومانية هي المسيحية، ولقد كانت هذه الإمبراطورية قائمة قبل ميلاد المسيح عكس ما حدث للدعوة الإسلامية التي نشأت فوجدت ثقافة وتقاليد وروح قبائل وعصبياتها فأخذت منها العقيدة الجديدة واجتهدت فيما وراء ذلك شاقة طريقها عبر اجتهادات الخلفاء عبر تقليد ظل ملازماً للفكر الإسلامي فظل طالب السلطة مقبولة أحكامه من الجميع في اللحظة التي يجلس فيها على سدة السلطة، وهناك قاعدة فقهية أنتجتها عبقرية فقهاء الدولة الإسلامية لمن غلب واستولى على السلطة بانقلاب أو ميراث أو تحت ظلال الرماح. تقول القاعدة الفقهية «من قويت شوكته وجبت طاعته»، أي التسليم بما هو قائم وعدم شق عصا الطاعة على السلطان الأمر الذي لم يترك للفقهاء وضعاً مغايراً للتداول السلمي للسلطة رغم أن هناك اجتهادات قام بها بعض علماء المعتزلة لكن بكل أسف ضاع معظم هذا الاجتهاد ولم يصل منه إلينا إلا شذرات تنبئ بوضاءة تلك الأفكار وكذلك هناك مساهمات قدمها الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية وابن قتيبة وغيرهم من فقهاء مثل الأحكام الشرعية لابن تيمية لكن واقع الحال الذي عاشته الدولة الإسلامية بعد أن خرجت من إطار دولة المدينة إلى فضاءات الشام والعراق، أي دمشق وبغداد، وتوسعت وأصبحت إمبراطورية وهذا التوسع الإمبراطوري الشاسع فرض على الحكام والخلفاء المسلمين السير في ذات الدرب، أي درب السابقين، وهو الحكم بالأسس والمعايير التي تحكم أية إمبراطورية في ذلك الزمان. فكان الحكم الإمبراطوري الذي فرض واقعاً على مسيرة الدولة فأضاع على المسلمين فرصة تطوير وتحديث أنموذج دولة المدينة عبر تطوير فكرة مفهوم الشورى الذي أصبح الآن ملتبساً، وكان يمكن وعبر تعزيز المشاركة من قبل كل أفراد الأمة لكن تحول العقيدة إلى عقيدة كونية أدى إلى ما أدى إليه وسط جموع الإمبراطورية، فأخذ الحاكم أو الخليفة معطيات ذاك الزمان، ولقد كان ما كان. فلقد حلت الدولة الإسلامية وملأت فراغات الإمبراطوريات التي حطمها المد الإسلامي والدين الجديد فقامت الإمبراطورية الإسلامية وفق اجتهاد فرضته عليهم ضرورة تلك المرحلة والأنموذج بل الغالب الذي وجدوه قائماً وعبر اجتهادهم حسب ما يرونه، وهنا نذكر الحديث الذي دار بين النبي «صلى الله عليه وسلم» وأحد أمراء جيشه والدين ما زال غضاً ووحي السماء لم ينقطع بعد، إذ قال النبي «صلى الله عليه وسلم» لأحد قادته «إذا حاصرت أهل الحصن فأرادوك أن تنزل لهم على حكم الله فانزل لهم على حكمك وحكم أصحابك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أو لا». وهنا سؤال يطرح نفسه بإلحاح ألا وهو: هل يوجد أنموذج أو قالب أو حتى نظرية لدولة إسلامية؟! ومع وجود ملل وديانات أخرى نقول نعم لا يوجد، فلا يمكن للدين برسالته العظيمة أن يتضاءل تحت ظل دولة أو سلطان أو يراهن على مشروع دولة قهرية كما كان حال الدول الإمبراطورية الكبرى التي سادت إبان ظهور الإسلام، فكانت الدولة قوة مجردة متجبرة والتاريخ وأحداثه يحكيان بما لا يدعو مجالاً للشك، وعبر ما حدث من عراك وحروبات حول السلطة في كال الدول التي تعاقبت رغم ظهور شعارات مثل «لا حكم إلا لله»، فهذا الشعار التحيدي أي الشعار المفخخ يحيد الخصم السياسي ويكبح جماح كل تفكير وحوار جدي حول علاقة الدين بالسياسة أي يدفع الناس الهرب إلى الأمام فلا يمكن أن نؤسس لنقاش وحوار حول معاش الناس وضروريات حياتهم بشعار غير قابل للتفكيك أو النقاش، فأصحاب هذا الشعار والمنعطف الجائر لا يؤسس لأسس فكرية ولا يتعاطى مع التحولات الكبرى التي تختلج على مساحاتنا السياسية وتمسك بتلابيب القادة باحثة ومترجية لحل بلا حلول ترضي الجميع وتؤسس لقانون يتساوى فيه الجميع دون أية اعتبارات دينية أو إثنية أو ملية أو ثقافية أو جغرافية، مثل ما طرأ من تطور وتحول في الفكر والتجربة الإنسانية حينما انهارت الإمبراطوريات وقامت الدول القومية مكان الإمبراطوريات لكن بقوانين وأساليب تختلف عن واقع الإمبراطورية. وإلى الحقة الرابعة بإذن الله.