حلفتك بالرسول يا أخوي جَنْي ود قش ما تجيب سيرة ناسًا بالهدّار بعقروا القش للزمن الجميل وحدين بلحيل قلبهم هَشْ يوم تطرى النشوغ دقونهم بالدموع تترش «مالك إبراهيم الدمازين» تنويه: أشكر أستاذنا الكبير إبراهيم إسحاق إبراهيم على تصويب كلمة «النشوغ» وبحسب القاموس فهي تعني: الذهاب إلى الأماكن العالية في موسم الأمطار ولذلك كان عكسها «المواطاة» التي تعني ضمناً العودة إلى الأماكن الواطئة بعد الخريف. فقد كان رعاة الإبل في شمال كردفان يتحركون جنوباً مروراً بمنطقة أبو سنون وأم صميمة في دار البديرية، وعيال بخيت والخوي في دار حمر، وتستمر رحلتهم قرابة ثلاثة أشهر يصلون خلالها حتى بت أم بحر وهي منطقة تجمع مياه معروفة«أضاة».ثم يعودون نحو الشمال باتجاه الظليط والضليل وتنه وجرقل وأبو عسل وسودري وكاجا وكتول والسروج والحمرة وربما يتجهون غرباً إلى وادي الملك وشرق ميدوب ويواصلون الرحلة إلى الصحراء الكبرى لرعي نبات الجزو«نبات شديد الخضرة يجزئ الإبل بدلاً عن الماء» في فصل الشتاء ثم يعودون إلى مناطق الدمر مع بداية الصيف. ومن جاتهن هبيب السافل المنقدا جنىْ ود جوده عايط للقبيلي وشدا بت دعتوره ما بترضى الوسخ والردا بتدور تاني بي ود اللبيب الصدا في الوقت الراهن تغيّرت هذه الرحلة نحو الشمال نظراً لبعض الظروف الأمنية فصار العرب يتوجهون شمالاً نحو الصافية وأبو عروق وعد المرخ وقِمِر وعيلاي في بادية الكبابيش والهواوير ويواصلون الترحال شمالاً حتى غرب دنقلا. إن فترة النشوغ هي الأكثر إثارة إذ يكون فيها فراق الأحبة والأهل مما يشكل مصدر إلهام لكثير من الشعراء والشاعرات. وفي ذلك يقول أحدهم عند رحيل الأحبة: قاموا الليلة من دار الدمر وأنقلو سقّد مايقي روقة الغمدة مابيه تطلو حازمة ضعينتن منجمعة ما بنفلو قلبي مع الجراسة البنقرن قام كلو وتحدث أثناء النشوغ أنشطة كثيرة منها ما يعرف «بالدور» وهو الركوب على الجمال السريعة في مجموعات في غالب الأحيان بحثاً عن مرعى أو فلاة أفضل، وهي أشبه ما تكون بسباق هجن لمسافات طويلة، يظل العرب يتحدثون عنها في مجالسهم ويمدحون الجمل الذي فاز أو سبق في تلك المناسبة وهم لذلك يدّخرون جمالاً بعينها لتلك المنافسة لما تنطوي عليه من متعة وشهرة. ليس هذا فحسب بل إنهم يؤرخون بمثل هذه الأشياء فيقولون مثلاً » «سنة كذا أو سبقة جمل فلان» مما يدل على أهمية هذا المنشط البدوي ودلالته بالنسبة لسكان البادية وفي هذا المعنى يتحفنا ود إدريس بقوله الرائع: شال سحب الصعيد بدري ودفر متحين دور أم زور بقول البلد ممطورة والفرع ليّن منشاغ البعيد الشوفو مو متبين للجعارة قاسي ولأم شراريب هين ويقول شاعر البطانة الكبير يوسف البنا: لَوَتْ الناقة فوق القش زمن ما شربت راتعة مفرقة ومردومة سيجةً خِرْبَت جمل دورها انطلق طول مقيم ما كَرْبت ماصعها ألفح رقّ أب هدرة طِرْبت والنشوغ هو الفترة التي تسمن فيها الإبل وتطلق الفحول من الجمال لتلقيح النوق، ويرتاح الرعاة من عناء الصيف يقول يوسف البنا: هاج بكرينا قنّبْ في حِقاقو يطارد ود بُريبَة الصيْ أم وريداً شارد حابِك فوقنا غيماً مهيّف وبارد يِِطري الزول مجالات الشلوخه عوارض في البطانة يتجه الرعاة شمالاً في فترة النشوغ نحو مناطق جبل قريعا والغُر والمندرة وأبو جراد وأبو قنافد وغيرها من المناطق. وتشابه رحلتهم هذه ما يحدث في شمال كردفان تماماً نظراً لتشابه الطبيعة والظروف المناخية والعنصر البشري الذي يشكل البدو غالبيته العظمى وجميعهم تقريباً من رعاة الإبل الذين آثروا حياة الترحال في البادية على الاستقرار وتتشابه تبعاً لذلك ثقافتهم وتراثهم الشعبي ومسميات أنشطتهم وكل ما يتعلق بحياتهم ونظامها الاجتماعي. مع نهاية الخريف يعود أهل البطانة جنوباً للدمر بالقرب من نهر الرهد والدندر مروراً بمناطقهم التي ترد كثيراً في أشعارهم. يقول أحدهم: حليلكم يا الأهل ود الزُقُل فتوهو ديك جُودية والدندر خلاس جيتوهو في طلحة المشرّمة ها الشقاق ختوه وحُور الجاهلة بتوب الحرير غطوهو في شمال كردفان يكون «الدمر» حول موارد المياه في العاديك، والبشيري، وأم بادر، وأم سنطة، وحمرة الشيخ، وسودري، وأم قوزين والسواني وجبرة ودونكي المغد والجمامة، وغيرها من المناطق التي تقع قريباً من المرعى، وبين هذه وتلك هنالك فترة المواطاة وهي العودة من النشوغ إلى القرى والفرقان مع نهاية الخريف ويعود الرعاة بخيرات «الصعيد» مثل القضيم و«القريقدان» و«القنقليس» و«القديد» وهو اللحم الناشف، وهذا الكلمة من فصيح العامية في شمال كردفان. والدمر فترة استقرار يجتمع فيها الشمل وتحدث فيها المناسبات الاجتماعية من أفراح كالزواج وختان الأبناء وفي أثنائها يتم التجهيز والإعداد لرحلة النشوغ. وفي فترة الدمر يمارس الرعاة «السدور» وهو الذهاب إلى المرعى لمدة تتراوح ما بين سبعة إلى تسعة أيام يعودون بعدها لسقيا الأنعام وهي كذلك يتخللها كثير من التحركات التي يطلقون عليها مسميات خاصة تميز كل يوم عن غيره فهنالك يوم«الضل» وهو اليوم الذي يسبق الورود إلى الماء؛ و«الحواضة» وهو الركوب لحجز المواقع حول البئر، فيركبون على الجمال السريعة أيضاً إلا أنه ليس مثل «الدور». خرَّفْتِ، وطلايْعِكْ للمراتِع لفَّنْ ضعايْنِكْ شيَّلَنْ من المدامِر، قفَّنْ وديانِك مشَنْ، ليهِن سبوع ما جفَّن وقِبْليكْ تَوَّر الركَمِي السحابو مَدَفَّنْ وقد سجل الشعراء تلك الرحلات والمناطق في أشعارهم وقصصهم وشكلت بذلك مادة التراث الشعبي الذي نجد فيه أسماء الأماكن والأشجار والنبات والأحداث التي قد تمر بهم. تقول الكباشية وقد خلت أم سنطة من أهلها: الليلة أم سنطة خفيفه وارداها أم بوح العيفه سياد الفز بي ليفه طردوا البطلق زيفه ويروى عن الشيخ المُر محمد علي التوم وقد آلمه حال ناقته التي لم تتمكن من النشوغ تلك السنة، إذ جار عليها الزمن فأقعدها عن اللحاق بالقطيع، فرآها «تحن» فقال مواسياً لها: كان حنيتي ما بتلامي ضايق النَجعة في النعم البقوم قِدامي القش الرّبِيعك فوقه صيد ونعامي ما قام أصلو بِخْلنبو المُحُول يا أم شامي إن الحنين إلى سالف الأزمان والأماكن، صفة ملازمة لكثير من البشر، وقد كانت هذه محاولة متواضعة للتعبير عما يجيش بالخاطر من ذكرياتي ك «ونقيب» أمضى فترة في ربوع شمال كردفان حين كان الزمان غير هذا الوقت المملوخ، وكان الناس صافية نفوسهم وحلوة عشرتهم وبينهم من الود والألفة الشيء الكثير، فهل يا ترى يعود ذا الزمن؟