و أمس الأول ، حين كتبنا عابرين عن الأخ نائب الأمين العام للمصارف بديوان الزكاة (و لم يدر بخلدنا أن ما نكتبه يمكن اعتباره إساءة للرجل ، الذي لم نسمع عنه إلا خيراً و إن لم نلقه) ، حين كتبنا تركيزاً على ظاهرة وليس شخصاً كان أول من هاتفنا معاتباً و مدافعاً عن الرجُل هو الأخ محمد بابكر ، مدير المصارف بديوان الزكاة ، بل و أشار في ثنايا دفاعه عن الرجل إلى أن هجومنا على الرجُل حين يأتي ، مباشرةً ، بعد ثنائنا على مرؤوسه محمد بابكر رُبما وجد من يؤولهُ تأويلاً خبيثاً .. ولعل من يعرفنا ويتابع ما نثير من قضايا ، يعرفُ أن الأشخاص في ذواتهم ، أياً كانُوا ، أخياراً أو أشراراً ، ليسوا هم أكبر همنا ، بل المنهج والضوابط والالتزام بها هي ما يعنينا قبل كل شيء ، و حين يبهجنا بعض أداء الديوان فنثني على بعض العاملين به ، فالثناءُ نعني به الديوان كله ، وحين يزعجنا أمرٌ بالديوان ، فنبدي إنزعاجنا الذي هو انزعاجٌ موضوعي و منهجيٌّ وليس شخصياً فالديوان كله ، لوائحه ونظامُهُ و منهجُهُ ، هُو ما نعني ، وليس شخص الأخ نائب الأمين العام للمصارف ، فالرجُل يعملُ ، في نهاية الأمر ، ضمن نظامٍ متكاملٍ ، ولا نستطيع أن نلوم »تِرساً« في ماكينة سيارة عن خطأ الميكانيكي إذ يضعُهُ في غير مكانه!!.. لم يقيض الله لنا ، حتى الآن ، من يستطيع أن يأتينا بتأويل ما لم نستطع عليه صبراً ، لم يفتح الله على أحدٍ فيبرر لنا أو لغيرنا ، الحكمة البليغة التي تربض وراء »استهلاك« بعض الرجال بوظائف متعددة و ذات خطر في آنٍ ، بينما يحفى الآلاف ممن يحملون ذات المؤهلات ، بحثاً عن وظيفةٍ يفيدون بها البلاد والعباد ، ويكفون أُسرهم شر الحاجة . كُنَّا و مانزالُ نظُنُّ أن ديوان الزكاة تحديداً هو أحوج الدواوين إلى ضبط حجم العمالة فيه ، فالله حين فرض مصرف »العاملين عليها« فهم كل ذي نُهى أنَّ العاملين عليها هؤلاءِ هُم من لا يُمكنُ الاستغناءُ عنهم في شأن جمع الزكوات ، وفهم كلُّ فقيهٍ بالقرءان الكريم أن مصرف العاملين عليها مصرفٌ ثانويٌّ ، حيثُ شرع الله تعالى فريضة الزكاة ، بدءاً ، لرد فضول أموال الأغنياء على الفقراءِ من عباده ، فلا يصلُحُ و الله ، والأمرُ هذا ، أن يكون مصرف العاملين عليها (أثني عشر و نصفاً بالمائة ، من جملة الزكوات) ، وفي فقه الزكوات مرجعٌ لمن شاء ، و بعضُ مصارف الزكاة أولى من بعض ، في ما أُثر عن أهل البصر من الأئمة ، و ما نريدُ أن يكون حديثنا مناظرةً ولا مجادلةً حول فقه الزكاة والصدقات ، ولكن نرى شواهد تنبئنا أن حجم العمالة في ديوان الزكاة يشهدُ ترهُّلاً ، ليس أول هذه الشواهد ولا آخرها أن تكون بعض الوظائف القيادية بالديوان مما يُمكن الاستغناءُ عنهُ ، حتى أن غياب صاحب الوظيفة لا يؤثر سلباً على الأداء!!.. فإن أنت نظرت إلى عُمران الديوان بالرجال ذوي الكفاءة و العدد ، ثم نظرت إلى بعض سياساته في توزيع الصدقات ، هممت بالسؤال : هل هؤلاءِ الفطاحلة ، هم واضعُوا تلك السياسات؟ .. ظللتُ أرقُبُ كل رمضان ملياراتٍ تُنفقُ على ما أسماهُ ديوان الزكاة »كرتونة رمضان« ، وهي لفافاتٍ من المواد الغذائية توضع في »كراتين« بعددٍ مهول ، يجعَلُ من يقوم بتوريد »الكراتين الفارغة فقط« يعتبرها صفقة العمر !! وهو شأنٌ كتب عنهُ في هذه الزاوية أحد الإخوة الكرام من العاملين بالديوان ، و إن كان ما يعنينا من أمر هذه الكراتين هنا ليس ما عناهُ الرجل ، برغم أهمية ملاحظته بشأن الكراتين الفارغة ، ما يعنينا هُنا هُو السؤال : تُرَى ، هل هؤلاءِ الذين تعبَّأ و تُحشدُ لأجلهم تلك الكراتين المخصوصة بشهر رمضان ، هُم بالفعل بحاجةٍ إليها؟ و إن كانُوا قد دبَّرُوا شؤون معاشهم طوال السنة بغير اعتمادٍ على(كراتين صفر والمحرم وبقية الشهور القمرية) ، فهل يُعجزُهُم أن يوفروا لأنفسهم إفطار رمضان؟ وشهرُ رمضان دون بقية أشهر السنة هُو الشهر الوحيد الذي لا يعدمُ فيه صائمٌ إفطارهُ ، وهُو الشهرُ الذي تمتليءُ طرقات المدن والأرياف في هذا البلد بموائد الإفطار ولا يدَعُونَ مارَّاً صائماً أو غير صائم يعبُرُ دون أن يضطروهُ اضطراراً إلى الجلوس إليهم .. أو دعنا نفترضُ أن من تُبذلُ لهم تلك الكراتين هُم فعلاً بحالٍ من الفقر تجعلُهم لا يجدُون وقد صامُوا النهار ما يُفطِرُونَ عليه (و هو أمرٌ شبهُ مستحيل في هذا البلد كما قدمنا) فهل يستغنون عن الطعام بقية العام؟ . أخشَى أن يكون أمر هذه »الكرتونة« مجرد إجراءٍ عاطفي ، مرتبطٌ بمفهوم »تعظيم شعيرة الصوم« عند بعض إخواننا ، و نحنُ مع تعظيم شعائر ديننا كُلَّ حين ، ولكن المطلوبَ من الديوان عاجلاً ، ومن صميم وظيفته ، هُو تعظيم شعيرة الزكاة أولاً ، ولا يكون تعظيم شعيرة الزكاة إلا بالاجتهاد و إفراغ الجهد والحيلة في تحقيق أقصى ما يمكنُ بلوغُهُ من وظيفة وحكمة الزكاة في المجتمع المسلم .. أعرفُ أُسراً عائلُها في السجن غارمٌ ، أو في دية لا تجدُ ما تطعمُهُ لا في رمضان ولا في غير رمضان ، و أعرفُ أن ما يوزعُ على مائة ألف اسرة من كراتين رمضان ، معظمها ليست بحاجةٍ ماسة إلى ما تحتويه من قليل دقيقٍ وسكر و غيرها مما يستهلكُ في يومٍ أو يومين ، قادرٌ على إغناء ألف أسرة بوسيلةِ كسبٍ دائمٍ تُغنيها عن كرتونة رمضان أو شعبان . كرتونة رمضان هذه والله لا نرَى لها ضرورة ، و ما يُبذلُ فيها من مالٍ يستهلكهُ عشرات الآلاف في بضعة أيامٍ لا يتغير حالُهُم بعدها ، يُمكنُ أن يُغيِّرَ من حال المئات من العُدمِ إلى الكفاية ، وهذه أجلُّ وظائف الزكاة.