تحدثنا فيما سلف من حلقات حول تطور الفكر السياسي ودور الدين وتقاطعاته في ظل الحكم الإمبراطوري إلى جانب الفكر الديني المسيحي أيضاً وعلاقته بالإمبراطورية الرومانية والدولة الإسلامية بعد أن شبت عن الطوق وتجاوزت دولة المدينة ودخولها الفضاء الإمبراطوري الشاسع وهنا وسوف نسلط الضوء حول فكرة الدولة القومية التي تفتحت براعمها في أوربا ومن ثم انداحت تلك الدوائر إلى بقية أجزاء العالم لا سيما بعد الحرب الكونية الأولى ومؤتمر الصلح واتفاقية سايكس بيكو وتفكيك كثير من الإمبراطوريات وانتشار ضياء حركات التحرر الوطني والاستقلال ودحر جيوش الاستعمار وفكر الكولونيالي رغم كل هذا كان هناك كثير من بلادنا الإسلامية تتوق وتتعلق بفكرة دولة الخلافة التي شاخت وظل هذا الحال يراوح مكانه إلى أن ظهرت حركة كمال اتاتورك في تركية التي تخلصت من فكرة الخلافة بعد أن وجدتها ميتة سريرياً إذ كانت تعاني كثيراً من الأزمات والعلل وسيطرت عليها مشكلات الشيخوخة إلى أن أضحت توصف برجل أوربا المريض. هذا الموت السريري الذي كانت تعاني منه الإمبراطورية العثمانية أو دولة الخلافة في الإستانة قامت حركة أتاتورك بتكفينه وإيداعه الثرى متخلصة من دولة الخلافة التي ظلت تحكم لمدة خمسة قرون ونيف وقدمت بدلاً منها نموذجاً علمانياً كانت منابع أفكاره الأساسية تأثر أتاتورك بالدراسة في الغرب ونشأته في مدينة سالونيك ذات القوميات والملل الأخرى سيما اليهود والارثوذكس والكاثوليك وغيرهم وزاد على هذا دراسة أتاتورك ورفاقه في الغرب وتأثرهم به فلذا حاولوا إنبات الفكر العلماني انباتاً وغرسه قسرياً في مجتمع لم يكن مهيئاً لابتلاع تلك الوصفة التي مازالت آثارها تتداعى في المجتمع التركي وكثير من نخبه على ساحة العمل السياسي التركي وهو ما نراه اليوم في يقظة الضمير الإسلامي وظهوره كقوة اجتماعية وسياسية كبرى لها أثرها الواضح في الشارع التركي بل أصبح حزب الأغلبية في تركيا ذو توجهات إسلامية رغم محاولات الجيش سابقاً بحمل المجتمع التركي والنخب الحاكمة للسير في دروب العلمانية ولقد كان الجيش لا يقبل بعض النخب السير في طريق أتاتورك ولقد ذكر في تلك الأيام الأستاذ (عبد الله سيفنين رئيس تحرير الصحيفة التركية اجتهاد إذ قال عشية قيام حركة اتاتورك وطرحها الصارخ ضد التوجه الإسلامي قال «لا توجد حضارة ثانية بل توجد حضارة واحدة فكلمة حضارة تعني الحضارة الاوروبية وينبغي استيرادها وفرضها كما هي بزهرها وشوكها» أي أن نخب تركيا وجنرالات جيشها لم تراعي حينها الواقع التركي ولم تقم بتفهم طبعية أن يكون الشعب يدين بالإسلام بل لم تقم حتى بتهيئة... المناخ التركي فكرياً وثقافياً حتى يتقبل هذه النقلة التي بموجبها أضحى الشعب التركي بل قادته بين ليلة وضحاها من دولة الخلافة الإسلامية بطقوسها وشاراتها عبر إمبراطورية شاسعة إلى دولة قومية ذات نزعة طورانية سافرة وموغلة في القطيعة تجاه ماهو ديني حتى الزّي حينها اتخذ منه موقفاً حاداً الأمر الذي لم يستسيغه الشعب التركي ولم يقبله ضميره لأن لهذا الدين خصوصية فيما يتعلق بكثير من قضايا حياة الناس كما أن أي فكرة إذا أردت لها النجاح يجب أن تتقدمها حوارات فكرية جادة فالثورة الفرنسية مثلاً التي أحدثت تحولات كونية كبرى في العقل الإنساني وحددت المسافات بين الكنيسة ورجالها والدولة وجاءت بعهد ووثيقة حقوق الإنسان وأصبحت ثورتها نبراساً وهادياً لكل الشعوب منذ القرن ال 16 الميلادي إلى يومنا هذا ليس بسبب الفال الحسن للشعب الفرنسي فما كان لثورة فرنسا وأفكارها أن تحفر عميقاً في وجدان فرنسا بل الإنسانية جمعا وتصبح مدرسة من مدارس الفكر الإنساني فيما قدمت من فكر ليبرالي وحركة هادرة فكرياً وثقافياً وفنياً ونقدًا متجددًا وفكرًا خلاقاً متوهجاً لولا قيام نخبها بمجهود ضخم ومشروع عظيم قبل قيام الثورة بل هو الذي شق الطريق للثوار وذلك بتدشين مشروع وطني ونقدي وتحليلي للواقع الاجتماعي والفكري والثقافي والديني ونبشه وسبر أغواره في الكتاب المقدس لم يسلم من ذاك النقد العميق والعلمي والجدل الخلاق والهادف والبناء دون قداسة لمنتجات البشرية وتجاربها وأمام هذا الحوار انزوى حرس الانغلاق والغلو والتطرف أمام أنوار الحوار وحقاً كان عصر أنوار وتنوير ومعرفة فلقد قام بدراسة التراث والفكر الديني ونقده نقداً عميقاً عبر أسس علمية وعقلية مجردة بعيدًا عن الخرافة والدجل والشعوذة فالسيادة والريادة كانت للعقل والنظرية العلمية والتجربة الحية وليس رجم الغيب وخرافات الكهان وكان هذا العمل النقدي الكبير للفكر الديني وما كان يسمى مقدسات من سلوك رجال الكنيسة كان مدخلاً فسيحاً انتقل به المجتمع عبر بوابات كبرى وطرق سالكة إلى فضاءات العقل والعلم ونبذ الخرافة احكام العقل وكانت هذه النقلة التي أحدثها عهد الأنوار الذي تجلت عبقريته وأينعت ثماره الزاهرة في الفنون والآداب والرسم والنحت والنقد والموسيقا والمسرح فلقد قام هذا الإبداع بالتهيئة لكل الظروف لاستقبال الانتقال إلى مربع جديد وهو الثورة الفرنسية التي انداحت أمواجها إلى أن لامست شواطئ الاطلنطي أقصى الغرب أي الولاياتالمتحدة. وفعلت أثرها هناك وألهمت الثورة الأمريكية بقيادة واشنطن ضد الإنجليز وفعلت أعاصير الثورة الفرنسية فعلها تجاه كثير من عروش وملكيات أوربا سيما ملوك البربون وحتى أوربا الوسطى والشرقية لم تسلم من آثار ثورة فرنسا وما كان لهذا أن يحدث لولا الدور الكبير الذي قام به الكُتاب والعلماء الفلاسفة والمفكرون والشعراء وبعض رجال الدين المستنيرين من أهل الجسارة فأضاءوا كل الدياجير المعتمة وانتشرت رايات وفلسفات وأفكار عصر الأنوار ولقد قامت هذه الحركة الفكرية بدور لا تقوى أعتى الجيوش من القيام به وحقاً كانت وما زالت أفكار عصر الأنوار منهلاً يرتشق منه أهل العقول الحية ولو حذت نخب وعسكر بلادنا وتجشمت ذات الطريق لكان واقعنا غير المشاهد هذا.