ما هو الصحافي؟ ما هي مطلوباته؟ كيف يوائم بين الإلتزام بأخلاقيات المهنة والإيفاء بمعاشه والانفلات من كماشة الترغيب والإغراء التي تحاصره هنا وهناك؟ وهل لتدفق المعلومات وحجبها علاقة بالالتزام الصحفي نحو الحقيقة؟ وهل القوانين السائدة في الصحافة تشجع على الانفلات المهني؟ وهل وكلاء النيابة ينبغي أن يلموا بمطلوبات الصحافة كشرط لازم للنظر في القضايا؟ أسئلة عديدة الإجابات عنها قد تتلاقى فيها الآراء أو تتقاطع تماماً مثل قضية الحرية والمسؤولية، فهي مسألة جدلية وتتباين مفاهيمها لدى الأنظمة الحاكمة، فالعديد من الدول هي التي تحدد تلك المعايير وفق ما تراه يحقق أمنها، بينما الدول المنفتحة تضبط هذه المفهوم وفق القانون والدستور، بينما يكون القضاء النزيه البعيد عن الاستقطاب السلطوي هو الفيصل. نبال من كل صوب: منصات كثيرة صّوبت نبالها على الصحافة في الأيام القليلة الماضية بعد موجة كبيرة من الحريات امتشقتها الأقلام الصحفية وإن اختلفنا أو اتفقنا في مضمون تناولها، وسيل كبير من المستندات والإفادات اعتمدت عليها العديد من الصحف في قضايا الفساد، بعضها اندفع بحمية البحث عن الحقيقة أو وقع التوزيع، فكانت العجلة في الطبخ وإن حسنت النوايا، لكن العديد أيضاً كانت ملتزمة بنهج التقصي والتثبت بيد أن الصدمة التي قدمتها، لم يكن من الصعب تحملها في ظل فقه تطاول اتكاؤه على المعالجات تحت الستار أو المسكنات التي تبتعد عن الجراحات الضرورية، فخرجت العديد من التصريحات التي تحذر من محاولة تفكيك النظام أو إلباسه ثوب الفساد قسراً. البرلمان يدخل الحلبة: وامتدت سهام النقد ضد الصحافة حتى إلى البرلمان. حيث شن البرلماني عن المؤتمر الوطني د. الفاتح محمد سعيد هجوماً عنيفاً على الصحافيين السودانيين لتناولهم قضايا الفساد، واتهمهم بالتشكيك في مشروعية الحكومة وإضعاف ثقة المواطنين فيها بحديثهم عن الفساد مما يؤدي إلى الإضرار بمسيرة الحوار الوطني، وحمَّل الصحافيين مسؤولية هروب المستثمرين من البلاد بسبب نشرهم لقضايا الفساد، وطالب البرلمان بتبني إصدار مشروع ميثاق شرف إعلامي لضبط تصريحات الصحافيين في الداخل والخارج والإعلام المرئي والمسموع، وصنع صحافة استقصائية تلزم الصحف بعدم التطرق لقضايا بعينها. وقال خلال الجلسة: لن نمنعهم من طرق القضايا الوطنية لكن يجب أن يتم ذلك تحت ميثاق، وأضاف أن أداء الإعلام في الشهر الماضي ومنذ انطلاق الحوار انحصر جله في الحديث عن الفساد. ولعل اللافت للنظر أن النقد جاء من برلماني وليس تنفيذياً في الحكومة، كما أن الحديث عن الفساد كما يرى الكثيرون، لا يؤثر على سمعة الحكومات عندما تتخذ فيما تكتبه خطوات جادة للنظر في تلك القضايا والتحقيق فيها وتحويلها للقضاء إما لإثبات ما جاء فيها من اتهامات أشارت لها تلك الصحف أو محاسبة الصحافي والصحيفة في القضاء الطبيعي في حال إن رأت الجهات الرسمية أن ما كتب مجرد تلفيق أو معلومات خاطئة تشين سمعة الدولة. والمعروف أن الدولة التي تحاسب المفسدين وتتعامل مع نهج الشفافية ولا تلقي بالاً لكاريزما الشخصيات مهما علت، هي التي يطمئن لها المواطنون ويثقون في سياستها كما أن المستثمرين يقبلون على الاستثمار في الدول التي تحارب الفساد وتطبق مبدأ الشفافية وليس العكس. فالمستثمر يتجنب أية دولة تكثر فيها الرشاوى والأتاوات غير القانونية وفرض المشاركة القسرية من الباطن. هجوم حكومي: وبعد يوم واحد من هجوم البرلماني د. الفاتح شن وزير الإعلام أحمد بلال هجوماً على الصحافة ونعتها بعدم المهنية والمسؤولية، واستنكر ما أسماه بعمليات الاغتيال السياسي للمسؤولين عبر نشر ملفات الفساد دون التثبت منها، كما طالب بإنشاء محاكم للصحافة خاصة للإعلام للبت السريع في قضايا النشر. وكشف في تصريحات صحافية عن تكوين لجنة من قبل الوزارة وعدد من الأجهزة التنفيذية والتشريعية لمد الصحف بالمعلومات، وطالب بالرجوع للجنة في قضايا الفساد قبل نشرها، والفقرة الأخيرة في حديث الوزير عن لجنة المعلومات قد يراها كثير من المراقبين والصحافيين أن التعامل العملي معها يبدو مستحيلاً إذ أن قضايا الفساد بطبيعتها لا يتحمس الجهاز التنفيذي للتعامل معها بالشفافية المطلوبة، ولا يعقل أن تمد اللجنة الصحف بالوثائق اللازمة في أية تهمة، كما أن قضايا النشر لا تحتمل التعامل البيروقراطي مثل الطلبات العادية التي تقدم للدواوين الحكومية، قد توافق عليها أو ترفض أو تسكت حتى عن الإجابة حولها ربما لفترات غير محدودة، كما أنه لا ينبغي أن تلزم الصحف بالتعامل مع كيان حكومي في قضايا الفساد طالما هي لديها المصادر التي منحتها تلك الوثائق والمستندات، ويبقى نشرها هو حق الصحيفة وتتحمل مسؤوليته أمام القانون. ولا شك أن إلزام الصحافة بإخطار اللجنة بقضايا الفساد مسبقاً يكبل رسالتها نحو الوصول إلى الحقيقة وقد يؤثر على مسار القضايا التي تتناولها. مؤتمر الإعلام هل يحقق المعادلة؟ إذا كانت معادلة الحرية والمسؤولية تعتبر مثار جدل واختلاف بين الإعلاميين والسلطات الحاكمة عبر الحقب المختلفة، وبالرغم من سيل النبال التي أطلقت من منصات عديدة ضد الصحافة، بيد أن الكثير من الصحافيين ينتظرون من مؤتمر الإعلام الثاني الذي من المنتظر أن يعقد قريباً للإجابة عن هذه الأسئلة بشكل يحدد العلاقة بين الطرفين الحكومة والصحافة، لكن مع ذلك فإن أي مقررات إيجابية لصالح المناخ الصحفي الحر يخرجها المؤتمر ما لم تسندها قوانين محكمة الصياغة بعيداً عن المبادئ الفضفاضة التي تسمح عادة بولوج التحذيرات وما يسمى بالخطوط الحمراء التي لا سقف لها عادة، إذ أن التوصيف القانوني يضبط العديد من المواد القانونية التي تتحدث عن المهددات الأمنية وعن إثارة الكراهية للدولة بشكل دقيق. وكان النائب الأول لرئيس الجمهورية بكري حسن صالح قد أكد حرص الدولة على إشراك كل الجهات والشخصيات لاستصحاب آرائها وتجاربها لإنجاح المؤتمر. عقبات في الطريق: إضافة إلى العقبات القانونية والقرارات الاستثنائية التي تواجه الصحف، هناك عقبات أخرى تتعلق بارتفاع مدخلات الطباعة المتمثلة في الورق والأحبار وغيرها، علاوة على إزالة العديد من أكشاك بيع الصحف بحجة استبدالها بمراكز حديثة أخرى لم يحدد تاريخ لهذا البديل الافتراضي، وإلى ذلك الحين ستواجه الصحف مشكلة حقيقية في التسويق، وهو ما أشار إليه تقرير مجلس الصحافة والمطبوعات الأخير. الواقع العالمي: بالطبع ليس السودان وحده الذي تعاني فيه الصحافة من عدة معوقات ومطبات، فالتقارير العالمية عن حرية الصحافة تشير إلى أنه رغم أن التجاوزات في مجال الحرية الصحفية تبدو أكثر في العالم العربي وبعض الدول مثل كوريا الشمالية وأمريكا اللاتينية، لكن حتى الدول الكبرى تظل متهمة بالعديد من التجاوزات في مجال اندياح المعلومات، فقد أشارت التقارير في العام الحالي 2014م إلى أن الصحافة الاستقصائية في الولاياتالمتحدة تواجه صعوبات جمة في بعض الأحيان، والتي تحتل المركز «46» حيث فقدت «13» مرتبة في التصنيف العالمي، مسجلة بذلك أحد أكبر التراجعات وأكثرها إثارة للانتباه. ويقول الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في تقريره عن واقع الصحافة للعام الحالي، إنه تم قتل «70» صحافياً ًوحوصر العديد منهم في تبادل لإطلاق النار خلال الأعمال العدائية المسلحة في العام الماضي. وعانى «14» صحافياً آخر نفس المصير هذا العام. وفي العام الماضي، تم احتجاز «211» صحافياً في السجن. ومنذ عام 2008 تم نفي «456» صحافياً، ومنذ عام 1992 أكثر من «1.000» صحافي أي شخص واحد تقريباً في الأسبوع. وشدد الأمين العام على أنه لا يجب أن يفلت من العقاب أولئك الذين يستهدفون الصحافيين بالعنف أو التهديد أو استخدام الطرق غير المشروعة بهدف تعطيل أوعرقلة عملهم. ويشير التقرير السنوي لحرية الصحافة لعام 2013، أنه تم قتل «71» صحافياً، واعتقال «826» صحافياً، واختطاف «87» صحافياً، كما تم تهديد أو الاعتداء الجسدي على «2160» صحافياً، وفرار «77» صحافياً من بلدانهم، كما تم قتل «6» متعاونين مع وسائل الإعلام، وقتل «39» مدوناً إلكترونياً وصحفياً، واعتقال «127» من الطرفين. وتشير تقارير «مراسلون بلا حدود» حول حرية الصحافة لعام 2014، إلى تدهور كبير في بلدان مختلفة مثل جمهورية إفريقيا الوسطى وجواتيمالا، في حين حققت الإكوادور وبوليفيا وجنوب إفريقيا تقدماً ملحوظاً. وأشار تقرير «مراسلون بلا حدود» لعام 2014، إلى أنه حتى في الدول التي تنتهج سياسة سيادة القانون لكنها في كثير من الأحيان تضحي السلطات بحرية الإعلام بحجة التأويل الفضفاض لمفهوم الأمن القومي، مما يمهد الطريق نحو تراجع مثير للقلق فيما يتعلق بالممارسات الديمقراطية، في سياق يتميز بملاحقة شرسة لمصادر المعلومات ومتابعة أشرس لكاشفي الفساد. كما لا تتردد بعض الحكومات في اللجوء إلى ورقة مكافحة الإرهاب لاتهام الصحافيين بتهديد الأمن القومي. المطلوبات أخيراً، نأمل في ظل الظروف الضاغطة التي تمر بها البلاد ألا تضيق الحكومة واسعاً وأن تترك للصحافة هامشها المتاح حتى يمكن أن تعبر عن هموم الجماهيرالحقيقية وفق الشرع والقانون وبلا عقبات ومتاريس ظاهرة ومستبطنة طالما كان ذلك بمسؤولية وفي إطار القانون الجنائي والأعراف الأخلاقية، إذ أن الضغوط تولد الكبت والكبت يولد الانفجار في النهاية. ولا شك أن الحكومات لن تفقد سلطتها وسلطانها لأن الصحافة نالت هامشاً معقولاً من الحرية، لكن الذي يبعدها حقاً من سدة الحكم هو انغلاقها في كهف محكم بعيداً عن هموم الجماهير ونبضها، وتمكين مراكز القوى من الفساد والظلم.