بالطبع ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة بمطالبة بعض النواب أو المسؤولين المواطنين بأكل الكسرة والتخلي عن الرغيف مهراً لرفع الدعم عن القمح. وأمس الأول طالب نواب بمجلس الولايات الدولة برفع الدعم عن القمح فوراً «يعني حتى تدرج ما في» وقالوا إن النمط الغذائي في السودان هو «عصيدة الدخن» وليس الرغيف الذي وصفوه بأنه صنيعة أوربية ومن يأكله هم أهل المدن على حساب أهل الريف، وأضافوا أن الحكومة غيرت عادات الناس وأكلتهم حاجات هم ما عاوزنها. «يعني يا ناس البرلمان برضو كويس الما قلتو الدقيق ذاتو ليه يطحنوه في الطواحين والمطاحن الكبيرة بدلاً للمراحكة تخفيفاً لفاتورة الكهرباء ولأن الأوربيين بستخدموا المطاحن الحديثة»! فإذا كان إيقاع الحياة السريع والتحولات في نمط الأكل والسكن واللبس وسبل المواصلات كلها تخضع لتلك التغييرات المتسارعة، لكن يبدو أن بعض هؤلاء السادة بدوا وكأنهم يريدون أن يجروا عقرب الساعة إلى الوراء، بالعودة التامة لأكل الكسرة، مع العلم بأن الكسرة لم يتخلَ عنها حتى أهل المدن بمن فيهم «المرطبين» رغم ارتفاع تكلفتها والزمن الكبير الذي يهدر فيها في عصر «التك أوي». والغريب أن ينسب بعض النواب أو أحدهم أكل الرغيف بأنه عادة، وأن الحكومة هي التي علمتهم أكله عندما قالوا«الحكومة غيرت عادات الناس وأكلتهم حاجات هم ما عاوزنها» أي بهذا المنطق أن الناس تعلموا أكل الرغيف بعد الإنقاذ، وأن الرغيف لا يريده أحد لكن الحكومة «أكلتهم حاجات هم ما عاوزنها»، أما المطالبة الفورية برفع الدعم، فقد طالب من قبل نواب من البرلمان برفع الدعم عن كل السلع المدعومة بما في ذلك السكر والقمح والدقيق، مبررين مطالبهم بأن المستفيدين من هذا الدعم هم ساكنو الخرطوم والأغنياء فقط، غير أن وزير الزراعة إبراهيم محمود علق بموضوعية على حديث نواب مجلس الولايات حول استبدال القمح بالدخن والذرة قائلاً «إن القرار يمكن أن يؤدي إلى مشكلات سياسية» موضحاً أن القمح أصبح الغذاء الرئيس للشعب السوداني ويصعب استبداله بأية سلعة أخرى. كما ذكَّر النواب بالميزانية الضعيفة للزراعة في بلد يتطلع حكامه منذ الاستقلال بأن يتحول إلى سلة غذاء العالم، حيث وصفها بالمتواضعة «3%» من جملة الميزانية العامة. إذن الأولى أن يطالب النواب سواء أكانوا من مجالس الولايات أو البرلمان القومي أو بالولايات زيادة ميزانية الزراعة، قبل أن يطالبوا برفع الدعم عن القمح أو يحثوا الناس على التخلي عن أكله والعودة للعصيدة والكسرة، وعلى الحكومة أن تسعى بجدية في وضع الزراعة في سلم أولوياتها، لأن الاكتفاء من القمح يحقق الأمن الاقتصادي فضلاً عن أنه يحفظ القرار الوطني ويجنبه الاستلاب الخارجي ويحقق الاستقرار والأمن الاجتماعي، فالنزوح الآن من الولايات تجاه العاصمة ما زال مستمراً بحثاً عن وسائل كسب العيش، فضلاً عن الهجرة للخارج وإن كان للعمل في وظائف هامشية، كل ذلك بسبب هجر الكثير من المزارعين للزراعة مكرهين لارتفاع تكلفتها وصعوبة التمويل، علاوة على أن الزراعة سيما زراعة القمح توفر الكثير من العملات الصعبة، لكن الحكومة تبحث عن الطريق القصير وهو رفع الدعم والاستمرار في الاستيراد والدليل هو ميزانية الزراعة «3 %»، وإهمال أكبر مشروع زراعي في السودان وهو مشروع الجزيرة الذي يعتبر رد الحيوية إليه في ظل الظروف الراهنة شبيه بوصول السودان للقمر. وكان من الطبيعي أيضاً بعد تدهور زراعة القطن أن تتراجع بالمقابل صناعة النسيج في السودان، حيث كان مصنع النسيج السوداني يعمل بثلاث ورديات، وكذلك مصانع الحصاحيصا وشندي وربما بقية المصانع الستة، وكان التجار يتسابقون لشراء إنتاج هذه المصانع، ومن يدري ربما يتسابق البعض لشراء ماكيناتها خردة في يوم قريب. أخيراً، يا ناس برلمان الولايات الآن في قريتنا الصغيرة والبسيطة بنهر عطبرة مخبز «فرن» لا يبور فيه الرغيف وتلك سنة التحول، وصح النوم يا جماعة استبدال الرغيف بالكسرة والعصيدة.