الأسبوع الماضي، ألقى الرئيس الأمريكي أوباما خطاباً في أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية، تناول فيه الشأن الدولي، باعتباره رئيساً لأكبر إمبراطورية نفوذاً في التاريخ البشري، سيما وأن هناك تقاطعات كونية كبرى تتداخل فيها أمريكا مع العديد من الدول بحكم مصالح الإمبراطورية وضرورات وجودها ومناطق نفوذها، خاصة وأن هذا الخطاب يأتي والعالم يعج بكثير من الأزمات منها ما هو أكد على تردد أوباما في التعاطي معها، مثل التهديدات الروسية لأوكرانيا، وتهديدات الصين لجيرانها، والموقف السالب من الإدارة الأمريكية مع هبات الربيع العربي، الذي أصبح يتحول إلى شتاء بارد وصيف حار في مثل ما حدث ويحدث في سوريا ومصر وليبيا واليمن، وأزمة العراق المتفاقمة. وجاء خطاب أوباما واضحاً في تعاطيه مع المشكلات الراهنة بأنه يتجنب أي تدخلات عسكرية، إلا إذا كان الأمر لامس مصالح واشنطن الحيوية مثل تأمين الحركة في الممرات البحرية والمجالات الجوية وبقائها مفتوحة. وأنه أي أوباما أشار إلى استخدام وسائل أخرى سيسعى لها تحظى بدعم أطراف عدة دولياً ليس من بينها الآلة العسكرية، كذلك أكد على أهمية الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان الأمر الذي أثار عليه موجات من السخط قائلة بأنه رئيس متردد لكن فيما يبدو أن تكاليف الأرواح والعتاد والمال في حربي العراقوأفغانستان جعلت الرئيس يحجم عن أي تدخل في المدى القريب رغم أنه تبقى له حوالي العامين من بقية رئاسته، وأن سلفه من رؤساء كان لكل رئيس أمريكي جلس على ذروة سنام البيت الأبيض، له حربه الخاصة، سيما وأن المؤسسة العسكرية ومجمع التصنيع الحربي يجعلان المؤسسات تلك في حالة استنفار دائم لأن لكل أمبراطورية واجبات أمن وطني وقومي وضرورات توسع كوني نحو مزيد من الثروات، ومهما كانت درجة السلم نجد أن كل رئيس يخوض حرباً، فالرئيس ترومان قاد حروباً ساخنة في كوريا قبل الانقسام وفي اليونان. أما خلفه آيزنهاور فلقد اختار أسلوباً ونهجاً أخف وهو أسلوب الانقلابات من الداخل. وشهدت العديد من الدول في تلك الحقبة موجة انقلابات كانت تقف خلفها واشنطن وحينما جاء خلفه الرئيس كيندي أجج الحرب في خليج الخنازير بل سار أبعد من ذلك إذ أمر باغتيال رئيس ڤيتنام الجنوبية السيد «نجو ديم» وفرض حصاراً بحرياً قاسياً على البحر الكاريبي وفتح بوابات التدخل العسكري العنيف في ڤيتنام رغم قصر مدة رئاسته التي انتهت باغتياله هو. وجاء من بعده «ليندون جونسون» الذي توسع عسكرياً عبر تدخلات واسعة تحت دعاوى ومزاعم مضحكة مثل القول إنه تم الاعتداء على الأسطول الأمريكي في خليج «تونكين» وذهب جونسون أبعد من ذلك في هندسة ودعم الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 التي ما زالت جراحاتها غائرة في وجدان وجسد الأمة العربية وتوابع زلزالها ما زالت تترى ارتداداتها في المنطقة. وحينما جاء خلفاً له الرئيس نيلسون امتد لهيب الحرب الضارية في ڤيتنام إلى لاوس وكمبوديا وشهد هذا العهد إنفاذ عدة انقلابات من الداخل شقيت بها كثير من الشعوب سيما في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، على سبيل المثال كان هناك انقلاب في شيلي ضد الرئيس الليندي الذي قاوم ذاك الانقلاب إلى أن قتل تحت سلاحه أمام قصره، ولم يكتف نيلسون بهذا بل توج عهده بأكبر دعم قدم لإسرائيل أثناء وبعد حرب أكتوبر أو الغفران 1973م. وحينما جاء الرئيس كارتر جاء مستشاروه بفكرة دعم مجاهدي أفغانستان تحت نظرية تسليح الإسلام كي يطارد الإلحاد الشيوعي في آسيا الجنوبية، وكان المجاهدون الأفغان تحت السلاح والتدريب الأمريكي عبر أجهزة مخابرات واشنطن وأنظمتها الحليفة في المنطقة التي لم تكتف بهذا فحسب، بل جلبت لأولئك المجاهدين البغال من اليونان وتركيا وغيرها لتحميلها وخوض الحرب بها في جبال أفغانستان القاسية والموحشة وبعد هزيمة الإلحاد الأحمر في أفغانستان حسب مزاعم واشنطن أصبح أولئك المجاهدون الذين قاتلوا في وادي مانشير وقمم أفغانستان الشاهقة، أصبح أولئك الشباب المدعوم والمدرب أمريكياً إرهابيين ومطاردين من لدن واشنطن وصويحباتها في المنطقة ومطالبين للعدالة الدولية بتهم الإرهاب والفكر الهدام الضال. وحينما جاء السيد ريغان خلفاً لسلفه كارتر قام بغزو بنما وجرانادا لأسباب أوهى من خيوط بيوت العنكبوت في الشتاء. أما السيد بوش الابن فلقد كانت له غزوات وغزوات وجاء يحمل مشروع الإمبراطورية سلوكاً وممارسة فكانت حرب الخليج وغزو العراق والدخول إلى الصومال التي لم يطق جنود المارينز البقاء بها طويلاً، فلقد كان هناك البأس شديداً، وحينما جاء الرئيس كلينتون كانت صناعة السلاح دخلت مرحلة جديدة وهي الحرب الالكترونية وجربت عبر زخات وموجات القذائف الصاروخية الذكية كما زعموا لحرق قلب بغداد وحتى الخرطوم لم تسلم من تلك الصواريخ الجوالة، وكذلك جبال قندهار. وحينما جاء بوش الابن فعل الأفاعيل في حروبه التي كانت مثل الموجات الصليبية إبان العصور الوسطى وأدخل معها مصطلح الحرب على الإرهاب متجاوزاً حتى الغطاء الأخلاقي والقانوني الشكلي من الأممالمتحدة وأصبح من لم يقف في صف واشنطن في تلك الحرب المشمرة عن ساقها فهو عدو، كل هذه الحروبات لم تأت بسلام وأمن إلى العالم بل زادت من حملات الكراهية لسادة البيت الأبيض، وها هم صقور المؤسسات الصناعية الحربية والعسكرية يتهمون أوباما بالتردد أمام عدة مشكلات باعتباره رئيساً يسبح عكس تيار العقيدة العسكرية الأمريكية، ويبدو أن بالرجل شيئاً من حكمة سيما وأنه لم يكن ابناً للمؤسسة العسكرية وقد يكون حجم التدخل عملياً مكلفاً وغالي التكاليف، سيما وأن العالم يشهد موجة وأزمة اقتصادية قاسية لم تترك ركناً في هذا الكوكب إلا وهبت عليه.