· قسطٌ كبيرٌ من أزمات التعامُل العربي مع أمريكا و مع إسرائيل ، و التباس المواقف العربية وعشوائية تفاعلنا الدبلوماسي مع المذكورتين أعلاه ، قسطٌ كبيرٌ من هذا التفاعل المأزوم يعُودُ إلى مشكلاتٍ في (التصوُّر العربي) لحقيقة إسرائيل ، وحقيقة أمريكا ، ومِن ثَمَّ حقيقة العلاقة بينهما. · و خطأ التصوُّر يقودُ – ضربة لازِب – إلى خطأ الرؤية ، و خطأ الرؤية مقدِّمةٌ موضوعيّة لخطأ الموقف ، وخطأ الموقِف أصلٌ أصيل لخطأ الإنفعال ، الذي يُثمِرُ خطأ الفعل ، و يُسفِرُ ، في غاياته القصوى عن سوءِ العواقب .. · و من أعظم أخطاء التصوُّر الشائعة في أدبياتنا – والسياسية منها على وجه الخصوص – النظرُ إلى الولايات المُتَّحِدة ككيان أعظم ، مستقِل ، ومُبادر ، ثُمَّ النظرُ بذات العين إلى (إسرائيل) كدويلةٍ محدودةٍ بوضعها الجغرافي – المتمثل في إرض فلسطين المحتلَّة – وتابعةٍ للولايات المتحدة ، التي يرى الجميع أنها السند الأقوى والحامي الأعظم للكيان الصهيوني .. · في الواقع ، يستطيع من يُمعِنُ التأمُّل ، ويُحسِنُ النظر إلى جُملة المشهد ، أن يكتشف أن مقلوب التصوُّر أعلاهُ هو الأقرب إلى العقل ، وذلك بعد أن نستبدل إسرائيل «الدويلة» بإسرائيل «الفكرة» ، فهذه الأخيرة هي التي صنعت الولاياتالمتحدة بشكلها الراهن وتوجهاتها المشهودة ، وهي التي تسهر على حماية الولاياتالمتحدة بصورتها هذه ، وهي التي تصنع مواقف الولاياتالمتحدة وسياساتها الداخلية والخارجية ، وهي صاحبة الكلمة الفصل في من يحكُم الولاياتالمتحدة «إسميَّاً» – أعني رئيس الدولة و مؤسسات الحكم التقليدية – وفي من يحكُمُها «فعليَّاً» ، وأعني بالأخير الشركات ذات النفوذ الصارخ داخل أوعية الحُكم هناك ، بما فيها وكالة المخابرات المركزية الأميريكية و ال»اف بي آي» (وهاتان الأخيرتان تمثلان ، دائماً ، المنطقة الوسطى بين مؤسسات الحُكم الشكلية و الأخرى الفعلية )، وشركات النفط بمختلف أدوارها وتخصصاتها ، وغيرها من الشركات العملاقة التي هي صاحبة الكلمة الأولى والقرار الأعلى و الدور الحاسم في أية انتخابات أمريكية ، حيث يكونُ تمويل الحملات الانتخابية و «إدارتها» مالياً و إعلامياً هو العنصر المصيري والحاسم ، و المال والإعلام هما ما تملكه تلك الشركات التي تختزل خطابها الكُلِّي في جُملة واحدة ، هي «مصلحة أمريكا»!!و مصلحة أمريكا ، في الواقع ، هي تعبيرٌ يُرادُ به مصالح تلك الشركات من خلال سيطرتها على مفاتيح اقتصاد العالم في أقصى حدوده الجغرافية التي يتيحها تمدد النفوذ الأمريكي . · إسرائيل الفكرة – وليس ما يُسمَّى باللوبي اليهودي – هي محرك تلك الآلة المهولة التي تتحكم في سياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية ، و إسرائيل الفكرة ليست شيئاً من صنع اليهود ، بل هي – في الواقع – استثمارٌ لبعض عقائد اليمين المسيحي المتطرف ، و نفاقٌ دينيٌّ من قبل بعض التجار الأثرياء ، ممن لا يأبهون أصلاً بفكرة الدين إلا كفكرة استثمارية تحول من خلالها العواطف الدينية لبسطاء اليمين المسيحي و بسطاء اليهود ، إلى «دولارات» قابلة للصرف .. · إحدى أهم نتائج الرؤية الواهمة المذكورة أعلاه – أعني قوامة الولاياتالمتحدة على نفسها وعلى إسرائيل – هي التصوُّرُ الشائعُ المألوف الذي أصبح من المسلَّمات السياسيّة ، القائلُ أنَّ سبب انحياز الولاياتالمتحدة ، الكامل، لإسرائيل ، ترتَّبَ على وجود ما أسموهُ بجماعة (أو جماعات) الضغط اليهودية في الولاياتالمتحدةالأمريكية – أو «اللوبي اليهودي» – وقدراته الإستثنائية ، بفضل التنظيم والإحتشاد والتفاني ، على التأثير الفاعل في سياسات ومواقف وانحيازات الإدارة الأمريكية ، لصالح إسرائيل ، وضد أعدائها ، وهذا الوهمُ الكبير هُو ما جعل أصواتاً مسلمة وعربيّة مخلصة وصادقة ، ولكن حائرة ، ترتفع بالدعوة إلى الإقتداء باليهود ، واستثمار الوجود الإسلامي والعربي الكبير في الولاياتالمتحدةالأمريكية ، في تكوين قوة ضغط مشابهة لما يمثله اللوبي اليهودي المزعوم ، وهؤلاءِ يستشهدون بالإحصائيات الدقيقة التي تؤكد أن الوجود المسلم والعربي في أمريكا يساوي أضعاف أضعاف الوجود اليهودي هناك ، وأنَّهُ لا ينقُص اللوبي الإسلامي والعربي في أمريكا – لكي يتفوق في تأثيره على اللوبي اليهودي – سوى بعض التنظيم والترتيب والتعبئة !! · هذا ، وقد مضى بعض المخلصين من المسلمين والعرب هناك يحاولون إنزال هذه «التوصية» إلى أرض الواقع ، وإطلاق اللوبي الإسلامي في أمريكا ، وربما اكتشف القليل منهم – حتّى الآن – أن هذه المهمّة عبثٌ خالص ، يُشبه في كثير من الوجوه ، محاولات «أبو الدرداق» – وهو الاسم السوداني للجعل ، تلك الدويبة المتّهمة ، بحسب الأدب الشعبي السوداني ، بخطبة القمر وتحمُّل مهره – في تنظيف الأرض من القاذورات مهراً للقمر !! .. ربما استطاعَ العربُ والمسلمون في الولاياتالمتحدة أن يجعلُوا لأصواتهم الانتخابية قيمةً يأبهُ لها مرشحو الرئاسة الأمريكان ، أو مرشحو مجلس الشيوخ ، ولكن أطمئنهم تماماً أنه حتى لو حدث ذلك ، فلن يفلحوا في التأثير على سياسة أمريكا الخارجية أو حتى الداخلية ، قيد أُنملة . · فالأمر لا شأن له ، أصلاً ، بجماعات الضغط ، لأن دولة بالغة عاقلة ، مهما بلغ غباؤها ، لن تُسمِحَ لجماعة من الجماعات مهما عظم شأنُها ، أن تُخطِّطَ لها سياساتها ومواقفها ، ما لم تكُن تلك الدولة ، بالأساس ، تُضمِرُ اتخاذ تلك السياسات والمواقف .. · أما الواقع ، فهُو أنَّ توجهات الإدارة الأمريكية – منذُ أن وُجدت إسرائيل – ظلّت هي توجُّهات إسرائيل (الفِكرة) تجاه إسرائيل (الدولة) .. يعني ، إسرائيل رُسمت وصُمِّمَت كفكرة مقدسة ، في أمريكا ، قبل أن تُرسَمَ كدولة على الأرض ، وظلَّت الفكرة ، وسوف تظلُّ لعقود طويلة ، أكثر رحابة وراديكالية من الدولة ، وأحرص على الوجود والإستمرار من الدولة ، ولكنّ فكرة إسرائيل ليست هي التي تُساند وتحمي «دولة» إسرائيل ، العكسُ هُو الصحيح ، فإسرائيل الدولة هي التي تحمي – في الواقع – إسرائيل الفكرة ، التي تُمثِّلُها الإدارة الأمريكية بتوجهاتها المعهودة ، بل تُمثلُها ، في الحقيقة ، الدولة «العُظمى» المسمّاة أمريكا .. الذين يظُنُّون أن وجود إسرائيل رهينٌ لوجود أمريكا ، يقلبون الحقيقة ، التي هي أن وجود أمريكا هو المرهون لوجود إسرائيل ، وحين تُدافِعُ أمريكا عن إسرائيل فإنها ، في الواقع ، تُدافِعُ عن وجودها أولاً وقبل كل شيء .. · لا ينبغي أن نظل أسرى التصوُّر الذي حمل الرئيس المصري الراحل أنور السادات على إيقاف حرب رمضان في اللحظات الحاسمة ، وإجهاض النصر ، حين توهَّمَ أنَّ استمرارهُ في الحرب وقضاءهُ على إسرائيل يعني مواجهة أمريكا !! لم يجد الرجُلُ حينها من يفتح بصيرتهُ على أن أمريكا التي يعرِف لن تظل باقية – ولو لدقيقة واحدة – بعد ذهاب إسرائيل !! · ولهذا السبب ، تستطيع تفسير الرعب الذي مثلتهُ حماس للإدارة الأمريكية ، قبل أن تُمثِّلَهُ لإسرائيل ، و تستطيع أيضاً إدراك مبررات الجنون الذي تصاب به أمريكا قبل إسرائيل ، كلما مرَّ ذِكرٌ ل»حزب الله « ، ولن تحتاج إلى كبير تأمُّل في الإرتعاد الأمريكي من فكرة أن تمتلك إيران سلاحاً نوويّاً يُمكنه تهديد وجود إسرائيل .. وجود إسرائيل الذي يعني وجود أمريكا ، وليس العكس !! · أمريكا تفهَمُ أن سِرَّ وُجودها وسِرَّ قُوَّتِها ، هو «إسرائيل» .. بقي علينا – نحنُ – أن نفهَمَ ذلك !! هل أبدُو مفهُوماً يا صاح؟؟؟